الإستشارة - المستشار : د. رجب أبو مليح محمد
- القسم : فقهية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
238 - رقم الاستشارة : 803
26/01/2025
ما حكم توثيق عقد النكاح؟ وهل التوثيق ركن من أركان النكاح خاصة في هذه الأيام؟
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فالمراد بتوثيق عقد النكاح كتابته عند الموظف الرسمي للدولة، واستخراج وثيقة تكون مع الزوجين، ويمكنهم من خلالها نسب الأولاد الذين يولدون بينهما، وضمان كافة الحقوق المتبادلة.
والتوثيق ليس ركنًا من أركان النكاح؛ فأركان النكاح عند جمهور الفقهاء هي الإيجاب والقبول، والولي، والشهود، والإشهار، وليس منها التوثيق.
لكنه من الأهمية بمكان؛ خاصة في هذا العصر الذي فسدت فيه الذمم وقد يصل حكمه إلى الوجوب، حيث تحفظ به الحقوق والأنساب.
والتوثيق حدث في العصر الحديث بعد فساد الذمم، وتفكك المجتمع، وضعف تأثير مؤسسة الأسرة والعائلة على أبنائها؛ ففي الماضي لم يكن بوسع الرجل أو المرأة أن يتنكر أحدهما لصاحبه، فينكر العلاقة التي شهد عليها المجتمع المحيط بهما، ولو فعل لوجد من سلطان العائلة، وقوة الأسرة من يرده إلى الصواب طوعًا أو كرهًا، وإلا نبذه المجتمع وطردته الأسرة فلا يجد له معينًا ولا نصيرًا.
أما الآن فيستطيع الرجل عند الاختلاف مع زوجه أن يتنكر لهذه العلاقة، فرارًا من الحقوق المالية، أو المعنوية، فلا تستطيع المرأة أن تثبت حقها في النفقة ولا نسب أبنائها ولا حتى الطلاق حتى تنكح زوجًا غيره.
كما تستطيع المرأة أن تترك زوجها وتلتحق بغيره، فلا يملك الزوج ردها إلى بيت الزوجة، ولا مقاضاتها حيث تزوجت بآخر وهي ما زالت زوجة له.
ومن ثمَّ نشأت الحاجة إلى توثيق عقد النكاح ويمكننا تلخيص الحكمة من توثيقه في النقاط التالية:
حكمة مشروعية التوثيق:
أولاً: صيانة الحقوق المتبادلة بين الزوجين كحق المرأة في السكنى والنفقة، وحقها في مؤخر الصداق، وحق الولد في النسب، وحق الزوج في الاستمتاع بزوجه إلى آخره.
ثانيًا: قطع المنازعة فإن الوثيقة تصير حكما بين المتعاملين ويرجعان إليها عند المنازعة فتكون سببًا لتسكين الفتنة ولا يجحد أحدهما حق صاحبه.
ثالثًا: التحرز عن عقود النكاح الفاسدة، أو الباطلة فقد يتزوج الرجل المرأة في عدتها وهو لا يدري، أو يتزوجها وهي محرمة عليه حرمة مؤبدة أو حرمة مؤقتة.
رابعًا: رفع الارتياب فقد يتهم الرجل أو تتهم المرأة أنهما يعيشان معًا في الحرام فتكون الوثيقة رافعة للتهمة ومبرأة للعرض، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
حكم التوثيق:
الأصل في التوثيق الجواز، ودليل مشروعيته قوله تعالى في أطول آية في كتابه الكريم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا...﴾ (البقرة: 282).
وقد اختلف الفقهاء حول مدلول الأمر في هذه الآية هل هو للوجوب أم للندب، والرأي الراجح أنه للندب بدليل قوله في نفس الآية ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 283).
والتوثيق بصفة عامة تدور معه الأحكام الخمسة، فقد يكون واجبًا إذا ترتب على عدم التوثيق ضياع حقوق العباد، وقد يكون حرامًا، أو مكروهًا إذا ترتب عليه ضياع الحقوق كتفضيل بعض الأبناء على بعض دون مسوغ شرعي، وقد يكون مندوبًا أو مباحًا في الظروف العادية عند وجود الثقة بين العاقدين، أو وجود ضمانات أخرى لحفظ الحقوق.
وما نرجحه للفتوى في هذا العصر أن توثيق عقد النكاح واجب شرعًا، لعدة أسباب منها:
أولا: أن القوانين المنظمة للعلاقة بين الزوجين جعلت هذا التوثيق أمرًا واجبًا، ولا تعترف بأي عقد آخر لم يوثق لدى الجهات الرسمية المعتبرة، وطاعة ولي الأمر واجبة ما لم تعارض الشرع، وتكون أوجب إن كانت هذه الطاعة ستؤدي إلى حفظ الحقوق ورفع الحرج.
ثانيًا: من القواعد الشرعية الجامعة المهمة قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وعدم التوثيق يترتب عليه ضرر على الزوجة، وهو الضرر الأكبر حيث إنها لا تستطيع أن تثبت حقها في النفقة ولا السكنى، ولا مؤخر الصداق، ولا النسب إلا إذا اعترف الزوج به، وفيه ضرر على الزوج حيث يمكن للزوجة أن تترك بيت الزوجية، وتلحق برجل آخر يعقد عليها عقدًا موثقًا أو بغير عقد؛ لتعيش معه في الحرام ولا يستطيع الزوج أن يثبت العلاقة الزوجية، كما أن فيه ضرر على الولد في ثبوت النسب من أبيه.
ثالثًا: عدم التوثيق يؤدي إلى الحرج في مبيت الرجل مع زوجته أو سفره معها، فهذا وإن كان جائزًا من ناحية الشرع غير أنه يؤدي إلى الارتياب في أمرهما واتهامها بالفاحشة والمسلم لا يضع نفسه موضع الريبة والشك.
من أجل هذا وغيره نرى أن توثيق عقود الزواج في هذا الوقت من الواجبات التي لا يجوز تركها إلا في حالة الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.
والله تعالى أعلى وأعلم