الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
45 - رقم الاستشارة : 1164
28/02/2025
أنا امرأة متزوجة وأعاني من ضيق نفسي شديد بسبب علاقتي بوالدتي. فقد كان والدي -رحمه الله- نموذجًا للوالد المثالي في أخلاقه وحسن تعامله معنا ومع والدتي، لكنه كان يواجه صعوبة كبيرة في التعامل معها، إذ إنها -للأسف- شخصية غير مسؤولة، سيئة الخلق، بذيئة اللسان، وكانت كثيرًا ما تتطاول عليه بأبشع الألفاظ حتى في حياته، لكنه كان صابرًا عليها محتسبًا، يحاول إصلاحها تارة بالحزم وتارة باللين والصبر. بعد وفاته، ازداد ضيقي من تصرفاتها، فهي لا تكف عن الإساءة إليه حتى بعد رحيله، وتذكره بكلام يؤذينا نحن أبناؤه، بدلاً من الدعاء له والترحم عليه. هذا الأمر أثر فيّ كثيرًا، لدرجة أنني قاطعتها لفترة طويلة لأرتاح من أذاها، لكنني عدت للتواصل معها خشية الوقوع في قطيعة الرحم. غير أنني لا أشعر بأي مشاعر طيبة تجاهها، بل أحيانًا أشعر أنني أكرهها بسبب أفعالها وتطاولها المستمر على والدي، ومع ذلك، أتعامل معها بشكل ظاهري حفاظًا على صلة الرحم، لكن داخليًا أشعر أنني أنافقها بهذا التعامل. فهل يعد ما أفعله نفاقًا حقًا؟ وهل إذا قررت قطع علاقتي بها نهائيًا أُعدّ قاطعةً للرحم، رغم أنني أشعر براحة نفسية شديدة عندما أبتعد عنها، وكأنني أتخلص من ضغط نفسي هائل؟
أختي الكريمة، مرحبًا بكِ، وأشكركِ على ثقتكِ بنا، وطرحك مشكلتكِ بهذا الصدق وهذه الصراحة. أسأل الله أن يفرّج همّكِ، ويشرح صدركِ، ويعينكِ على ما تمرّين به من ابتلاء، وبعد...
فمن حقّكِ –بالتأكيد- أن تتألمي لمعاملة والدتكِ لوالدكِ -رحمه الله- في حياته، وبعد وفاته. ومن الطبيعي أن تشعري بالضيق من تصرفاتها الجارحة، فلا أحد يطيق سماع الإساءة إلى من يحب، خصوصًا إن كان والدًا عظيمًا في أخلاقه وصبره كما تفضلت في رسالتك.
لكن الأهم هو كيف تتعاملين مع هذه المشاعر بطريقة حكيمة، ترضي الله -سبحانه وتعالى- وتُصلح قلبكِ، وتحقق لكِ الطمأنينة الحقيقية، خصوصًا أن المؤذية لك في هذا المقام هي صاحبة حق كبير عليك، أوصى به الله عز وجل، ورسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وصية مؤكدة.
ليس من العدل أن يطلب منكِ أحد أن تكوني بلا مشاعر، أو ألّا تتأثري بما تسمعين منها وترين، فقد أثّرت كلمات المشركين في النبي ﷺ، فواساه ربه مطمئنًا له بعلمه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) [الحجر: 97]، ثم في الآية التالية مباشرة أرشده إلى ما يفعل للتغلب على هذه المشاعر وتجاوزها، فقال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ)، فلا شك في أن ذكر الله واللجوء إليه بالسجود بين يديه، يشرحان الصدر ويهدئان النفس ويطمئنان القلب، وقد قال جلا وعلا: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ) [الرعد: 28].
فالحزن مشروع، والشعور بالضيق طبيعي، لكن الأهم هو ألا يُفسد ذلك قلبكِ، ولا يدفعكِ إلى ما يغضب الله.
وأطمئنك –أختي العزيزة- بأن شعورك الداخلي بالكراهية بسبب أفعالها ليس نفاقًا؛ لأن النفاق هو أن تُظهري الإيمان وتُبطني الكفر، أو أن تظهري المحبة وتبطني العداء والكيد، وليس أن تُظهري الأدب والاحترام لشخص يضايقك ويؤذيك، لأنك تتقين الله فيه، ومراعاة لحقه؛ بل إن هذا من مكارم الأخلاق التي يثيبكِ الله عليها.
انظري إلى النبي ﷺ، كيف كان يعامل عبد الله بن أُبيّ رأس المنافقين بالحِلم والإكرام، رغم أنه كان يسيء إليه في الخفاء والعلن! حتى إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: «يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق»، فرفض النبي ﷺ، وظل يعامله بالحلم حتى مات، وصلى عليه، ووقف على قبره، رحمةً منه؛ رغم كل أذاه.
فما تفعلينه ليس نفاقًا؛ بل هو من كظم الغيظ والعفو الذي أثنى الله عليه ضمن صفات المتقين، فقال: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]. وهذه منزلة عظيمة عند الله، أن تتحمَّلي أمك رغم الأذى، طلبًا لمرضاته سبحانه.
أختي الكريمة، لا شك في أن قطيعة الرحم من الكبائر، وقد قال رسول الله ﷺ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ»، يعني: قاطع رحم [رواه مسلم]. لكن الشرع أيضًا لا يلزمكِ بالتواصل القريب الذي يسبب لكِ أذى نفسيًّا شديدًا كالذي تتعرضين له وحكيت عنه في رسالتك. إنكِ -والحال كما ذكرت- لستِ ملزمة بكثرة الزيارات، والحديث، أو المودة العميقة، ولكن يكفي أن تُبقي الحد الأدنى للصلة، كالاتصال بها بين فترة وأخرى، أو السلام عليها، أو إرسال هدية، أو قضاء حاجة لها، أو حتى مجرد السؤال عنها، حتى لا تنقطعي عنها تمامًا.
فإن كنتِ تجدين في القرب الشديد منها ضررًا نفسيًّا كبيرًا، فابتعدي بالمقدار الذي يحمي قلبكِ، لكن لا تقطعيها تمامًا، بل اجعلي لكِ دائمًا خط رجعة، لتظلي في دائرة الصابرين الذين وعدهم الله بالأجر العظيم: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
وبناء على ما تقدَّم، ألخص لك نصائحي لك في الآتي:
أولًا- الاحتساب عند الله:
تذكَّري أن بِرَّكِ لها ليس لأنها تستحق، ولكن لأن الله –عز وجل- أمر بذلك، قال تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُواْ إِلَّاۤ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا) [الإسراء: 23]، فاحتسبي كل ما تلقينه منها، وكل ما تفعلينه لأجلها، عند ربك جل وعلا، ليأجرك ويثيبك ويعينك.
ثانيًا- التقليل من الاحتكاك:
إذا كان الحوار معها يسبب لكِ الألم، فحاولي أن يكون تواصلكِ معها بقدر لا يرهقكِ نفسيًّا، كما فصَّلت لك سابقًا.
ثالثًا- ضبط النفس:
عندما تبدأ والدتك في الإساءة إلى والدكِ، لا تجادليها، بل قولي بهدوء: «رحمه الله، نحن نحبه وندعو له، ليتكِ تدعين له بالرحمة»، ثم غيِّري موضوع الحديث، أو انصرفي.
رابعًا- الدعاء لها بالهداية:
قد تكون أمكِ تحمل جراحًا نفسية دفينة، ربما مرَّت بما لا تعرفينه ولم تتطلعي عليه، من مواقف حياتية سلبية، مع والدك أو مع غيره، جعلتها بهذه القسوة وهذا الخُلق، فادعي الله أن يصلح حالها ويهدي قلبها.
خامسًا- التنفيس بطرق صحية:
املئي قلبكِ بحب الله، وذكره، وتلاوة آياته، واسعي في أعمال الخير، والتواصل مع صحبة صالحة، فهذه الأمور تهدِّئ النفس، وتُسرِّي عن القلب، وتخفف الضغوط.
وختامًا -أختي العزيزة- أنتِ في اختبار عظيم؛ لكن اعلمي أن كل لحظة صبر تحتسب لكِ عند الله، وكل خطوة تخطينها في بر والدتكِ -رغم أذاها- هي درجة في سُلَّم الوصول إلى الجنة.
أسأل الله أن يملأ قلبكِ بالسكينة، وأن يعوضكِ خيرًا، وأن يرزقكِ بركة دعاء والدكِ لكِ، فهو -بإذن الله- راضٍ عنكِ كما كنتِ له ابنةً بارة.
دمتِ بخير وعافية، وقلبي معكِ في دعاءٍ صادقٍ، أن يرزقكِ الله الراحة والرضا، وتابعينا بأخبارك.