الإستشارة - المستشار : د. رجب أبو مليح محمد
- القسم : فقهية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
104 - رقم الاستشارة : 1572
12/04/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا امرأة أعيش صراعًا داخليًا لا يعلم شدّته إلا الله… منذ سنوات أعمل في شركة تابعة لمجموعة "مايكروسوفت"، ومؤخرًا صُدمت حين علمت أن صاحب الشركة يهودي، وله تعاملات مع شركات إسرائيلية! واللهِ كأن شيئًا انتُزع من داخلي… شعرت بزلزال في قناعاتي، وسؤال لا يفارقني: هل أنا آثمة؟ هل أُشارك – من حيث لا أدري – في دعم من يؤذون إخواني في فلسطين؟ هل وجودي في هذا العمل نوع من موالاة أعداء الله؟ هل أنا أعين على ظلم بطريقة غير مباشرة دون قصد؟ أنا مطلقة، أُعيل نفسي وطفلي، وهذا العمل هو باب رزقي الوحيد، والنافذة التي أتنفس منها بعد أزمات كثيرة… لكنني أصبحت أنظر إلى راتبي بشكّ، وكأن فيه شبهة أو حرام… وكل يوم عمل يمرّ، أشعر بثقل في صدري لا يُحتمل. زادت حيرتي حتى في أمور يومية… هل شرائي أحيانًا لمنتجات مثل بيبسي أو ستاربكس، أو طعام قد يكون فيه شبهة دعم للصهاينة، يُعد نوعًا من مظاهرتهم؟ هل هذه تصرفات تُحسب عليّ؟ وهل عليّ وزرٌ فيها؟ أصبحتُ أعيش في دوّامة من الشك والخوف… أخاف أن أكون خائنة لديني دون أن أشعر، وأتساءل: هل أنا أبالغ في هذا القلق؟ أم أن عليّ أن أتخذ موقفًا صارمًا مهما كان الثمن؟ أرجوكم… أريد جوابًا واضحًا يريح قلبي، ويوجهني إلى ما يُرضي الله، ويُذهب عني هذا العذاب الداخلي. جزاكم الله خيرًا، وبارك فيكم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فنشكر لك أختي الكريمة هذا الشعور والإحساس الطيب بنصرة المظلوم، وعدم الوقوف مع الظالم، حتى لو كنت تستفيدين منه ماليًّا وماديًّا؛ فهذه هي الأخوة الحقيقية، وهذا هو الجسد الواحد.
وسؤالك -أختي الكريمة – يتحدث عن أمرين في غاية الأهمية:
الأول: وهو مقاطعة منتجات الشركات التي تعين الظالمين، وتتسبب في قتل الأطفال والنساء والشيوخ وهدم الجامعات والمستشفيات وكل ما يتصل بأسباب الحياة الإنسانية بصلة، وهذا لا يجوز قولاً واحدًا، وخاصة في السلع التحسينية التي تتوافر بدائلها مثل التي ذكرت في السؤال.
فمقاطعة هذه السلع واجب على كل مسلم إلا إذا لم يتوافر البديل وكنا في احتياج شديد لهذه السلعة، وهذا لا يحدث إلا في حالات نادرة، ومقاطعة السلع التي تدعم الظالمين هو أضعف الإيمان.
الثاني: العمل في هذه الشركات التي تواترت الأخبار على تورطها في القتل والإبادة الوحشية، وهذا يتوقف على ما يقدمه من يعمل في هذه الشركات، وهل ما يقوم به لهذه الشركات يستعمل حقًّا في القتل والإبادة أم أنه عمل ثانوي، وهل يتوافر البديل له إذا ترك هذا العمل أم لا، وهل الخسارة الأكبر له أم للشركة، ولماذا لا يستفيد من خبراتهم حتى يجد العمل المناسب ثم ينتقل إليه؟
وفي مثل حالتك إن كنت تعملين عملاً ثانويًّا يقوم به غيرك ولن تضار هذه الشركة بتركك العمل بل يقع الضرر الأكبر عليك، فننصحك بالاستمرار والتعلم، ثم البحث عن مكان آخر حتى لو كان براتب أقل فسيعوضك الله خيرًا مما تركت لله تعالى.
أما إن كنت في منصب قيادي وستتركين فراغًا كبيرًا في هذا المكان وتجدين البديل ولو بأجر أقل، فبادري من الآن وأجرك على الله.
ولو طلبنا من كل العاملين في هذه الشركات ترك أعمالهم وهم آلاف مؤلفة ولم نوفر لهم البديل لكان الضرر علينا أكبر، وكانت الخسارة أشد، ولم نحدث النكاية بهذه الشركات.
لكننا نطلب ممن وصل إلى مناصب قيادية وحصل خبرة فائقة بحيث لو ترك المكان أحدث النكاية والخسران بهم، وهو في نفس الوقت سيجد عملاً نظيفًا شريفا لا يشارك فيه بالظلم نطلب منه أن يترك هذا المكان فورًا حسبة لله، ونصرة للمظلومين.
كما أننا نطلب من أصحاب المال في العالم العربي والإسلامي الإفادة والاستثمار في هذه الكفاءات وتوفير الرواتب المجزية لهم حتى يطوروا هذه البرامج وينافسوا بها هذه الشركات ويستعملوها بشرف وأخلاق المسلمين.
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي – رحمه الله – في الإجابة عن سؤال مشابه:
لا شك أن المسلم مأمور بمجاهدة أعداء دينه ووطنه، بكل ما يستطيع من ألوان الجهاد، الجهاد باليد، والجهاد باللسان، والجهاد بالقلب، والجهاد بالمقاطعة.. كل ما يضعف العدو، ويخضد شوكته يجب على المسلم أن يفعله، كل إنسان بقدر استطاعته، وفي حدود إمكانياته، ولا يجوز لمسلم بحال أن يكون رداء أو عونًا لعدو دينه وعدو بلاده.
فالمسلم يقف ضد أعدائه الذين يريدون أن ينتقصوا حقوقه، وينتهكوا حرماته بكل ما يستطيع، وكل من والى أعداء الله وأعداء الدين وأعداء الوطن فهو منهم، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51].
أي من كان مواليًا لهم بقلبه أو بلسانه أو بمعاملته أو بماله، أو بأي طريقة من الطرق أو أسلوب من الأساليب فهو منهم.. يصبح في زمرتهم.. وهذا ما حذّر القرآن منه في أكثر من سورة، وفي أكثر من آية، جعل الذين يتولون الكفار جزءًا منهم وبعضًا منهم.. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73].
فالمسلم لا يوالي الكافر، والبر لا يوالي الفاجر، فإذا والاه كان دليلاً على نقص إيمانه أو على زوال إسلامه والعياذ بالله، فهو نوع من الردة، ولون من المروق عن الإسلام، المفروض أن المسلم إذا لم يستطع أن يجاهد أعداءه بالسيف، فعلى الأقل يجاهدهم بالمقاطعة، لا يتسبب في أن ينفعهم اقتصاديًّا أو ماديًّا أو تجاريًّا؛ لأن كل دينار أو كل ريال أو كل قرش أو كل روبية تذهب إلى العدو، معناه: أنك أعطيتهم رصاصة أو ثمن رصاصة تتحول بعد ذلك إلى صدر مسلم.
فالمال هو الذي سيشتري السلاح الذي يقتل... وهكذا.. أنت إذا عاونت مشركًا أو كافرًا أو فاجرًا يحارب المسلمين، فأنت بذلك تقتل نفسًا مسلمة، وهذه كبيرة من الكبائر العظمى، قال تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ [المائدة: 32].. وقال تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93].
فالمفروض في المسلم ألا يكون مع أعدائه أبدًا، مهما أظهروا من حسن النوايا فهذا كذب – يقول الله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: 19].
فلا بد أن نعرف هذا جيدًا، وأن يكون كل مسلم مع أمته الإسلامية، ومع دينه... وهذا أقل شيء.. وهو أمر فطري في الأمم.. فالإنسان إذا حارب سواه، لا يحاربه بالسلاح فقط، بل بأكثر من ذلك... بالمقاطعة.
المشركون حينما أرادوا في مكة أن يحاربوا النبي –ﷺ- أول ما حاربوه، لم يكن حرب السلاح، وإنما كانت حربًا اقتصادية بالمقاطعة قاطعوه وأصحابه، وأهله، ممن انتصروا، من بني المطلب وبني هاشم... حاصروهم، وقاطعوهم ولم يبيعوا لهم ولم يشتروا منهم، ولم يزوجوهم، ولم يتزوجوا منهم، وذلك معناه: الحرب الاقتصادية، فالمسلمون أولى بأن يعرفوا ذلك وأن يقاطعوا كل عدو لله، وكل عدو للمسلمين، وكل من خرج على ذلك فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين.
والله تعالى أعلى وأعلم