الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
36 - رقم الاستشارة : 1013
16/02/2025
شيخنا الفاضل، أرجو أن يتسع صدركم لسؤالي، فقد أثقلني حمل الذنوب التي ارتكبتها في الماضي، وكلما تذكرتها اجتاحني شعور عميق بالندم والخوف من عاقبتها، حتى إنني أجد صعوبة في النوم والراحة. أشعر أنني مهما تبت وعزمت على الإصلاح، فإن هذه الذنوب تلاحقني وكأنها تذكرني بعدم استحقاقي لرحمة الله. فكيف لي أن أتعامل مع هذا القلق الذي ينهش قلبي؟ وكيف أستطيع أن أغفر لنفسي وأمضي في طريق التوبة بصدق، دون أن يبقى هذا الشعور حاجزًا بيني وبين الطمأنينة إلى رحمة الله؟ وما السبيل لإصلاح حالي حقًّا حتى أشعر أنني تغيرت وأصبحت أقرب إلى الله؟
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد...
أخي الكريم، أحيي فيك هذا القلب الحي، وأحمد لك هذا الندم الذي يعصف بقلبك، وإنه في ذاته نعمة من الله، ودليل على أن قلبك عامر بالإيمان، فلو لم يكن فيك خير، لما أوجعك الذنب، ولما أقلقك البعد عن الله!
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «إنَّ المؤمنَ يرَى ذنوبَه كأنه في أصلِ جبلٍ يخافُ أنْ يقعَ عليه، وإنَّ الفاجرَ يرَى ذنوبَه كذبابٍ وقع على أنفِه قال به هكذا، فطار» [رواه الترمذي].
وسأحاول -مستعينًا بالله- أن أجيبك عن أسئلتك، عبر نقاط محددة، راجيًا الله -عز وجل- أن تساهم تلك الإجابات في إراحة قلبك وهدوء نفسك.
أولًا- فهم طبيعة التوبة ورحابة رحمة الله:
اعلم –رحمك الله– أن التوبة ليست مجرد استغفار عابر، بل هي عودة صادقة إلى الله، وأجمل ما في التوبة أنها لا تقتصر على مجرد مغفرة الذنب، بل هي تجديد للعلاقة مع الله، وفتح صفحة جديدة ملؤها القرب والمحبة.
وقد وعدنا الله –جل وعلا– بأنه لا يغلق باب التوبة مهما كانت الذنوب، بل ونهانا عن اليأس من رحمته، فقال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
وتأمل كيف بدأ الله الخطاب في الآية بقوله: (يَا عِبَادِيَ)، رغم أنهم أسرفوا على أنفسهم! إنه ينسبهم إليه رغم ذنوبهم، ليؤكد لهم أنهم ما زالوا تحت عنايته ورحمته.
بل أكثر من ذلك، أنه -جل وعلا- من فرط رحمته وحبه لعبده التائب، يكافئه بأن يبدل سيئاته حسنات؛ حيث قال: ﴿إلا مَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا﴾ [الفرقان: 70 و71].
ولنتذكر الحديث العظيم عن رسول الله ﷺ: «التائبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ لهُ» [رواه ابن ماجة]. والأحاديث في قبول التوبة والمغفرة أكثر من أن تحصى.
فإذا كنت قد تبتَ بصدق، فإن الله يمحو أثر الذنب تمامًا، كأنه لم يكن، بل يزيدك فوق ذلك محبة وقربًا.
ثانيًا- كيف تتعامل مع القلق من الذنوب الماضية؟
أخي الحبيب، إن شعورك بالندم على الذنوب أمر محمود؛ لكنه لا ينبغي أن يتحول إلى وسواس يعيقك عن السير إلى الله، وإلا أصبح مدخلًا من مداخل الشيطان ليصرفك عن الأمل في الرحمة. فانتبه لهذه الحيلة الخبيثة منه لعنه الله، وضع في قلبك يقينًا أن الله لا يعجزه أن يغفر لك؛ لكنه يريد منك أن تستمر في التوبة والعمل الصالح.
وإليك بعض الأعمال التي تساهم في طمأنة قلبك:
1. أكثِر من الاستغفار والدعاء: قل من قلبك دائمًا: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني»، وردِّد ما سماه نبينا الكريم سيد الاستغفار: «اللَّهُمَّ أنتَ ربِّي لا إلَهَ إلَّا أنتَ، خلَقتَني وأَنا عبدُكَ وأَنا على عَهْدِكَ ووعدِكَ ما استطَعتُ، أعوذُ بِكَ من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لَكَ بنعمتِكَ عليَّ وأبوءُ بذَنبي فاغفِر لي فإنَّهُ لا يغفرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ» وقد قال ﷺ عن هذه الكلمات: «من قالَها حينَ يصبحُ موقنًا بِها فماتَ من يومه دخلَ الجنَّةَ، ومن قالَها حينَ يمسي موقنًا بِها فَماتَ من ليلتِهِ دخلَ الجنَّةَ» [رواه البخاري].
2. أحط نفسك بالصالحين: فإن صحبتهم تذكّرك بالله، وتحفِّزك على الثبات، وتعينك على الصبر على الطاعة، يقول عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]. كما قال النبي ﷺ: «الرجلُ على دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم من يُخالِلُ» [رواه أبو داود].
3. أكثر من الأعمال الصالحة: وذلك على تنوعها، من عبادات محضة كالصلاة والقيام والصيام والذكر، إلى عبادات يتعدى نفعها للناس، مثل الصدقة والبر وإغاثة الملهوف وتعليم الجاهل، فإن الحسنات تمحو السيئات، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114].
4. اجعل ذنبك سببًا لقربك من الله: بدلاً من أن يكون مصدر إحباط، اجعله وقودًا لك في الطاعة، فكلما ذكرتَ ماضيك، زِد في عبادتك، وكأنك تقول: «يا رب، لن أعود لمعصيتك أبدًا».
ثالثًا- كيف تصل إلى الشعور بالتغيير الحقيقي؟
التغيير الحقيقي بعد التوبة ليس مجرد إحساس عابر، بل هو حالة روحية وعملية تستقر في القلب وتنعكس على السلوك. والشعور الصادق بأنك أصبحت شخصًا مختلفًا وأقرب إلى الله، يحتاج إلى علامات واضحة يمكنك قياسها.
إليك بعض الخطوات والمعايير التي تساعدك في ذلك:
1- تحسّن علاقتك بالله؛ وخصوصًا في الصلاة:
فالصلاة هي ميزان علاقتك بالله، فإذا وجدتَ نفسك تصلي بخشوع أكبر، وتحرص على أدائها في وقتها، وتشعر بحلاوة القرب من الله فيها، فهذا مؤشر قوي على أنك تغيرت. قال النبي ﷺ: «وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة» [رواه النسائي].
فاسأل نفسك: هل أصبحت الصلاة بالنسبة لي لقاءً أشتاق إليه بدلًا من أن تكون مجرد عادة؟
2- الإقلاع التام عن الذنب والندم عليه بصدق:
فالتوبة الحقيقية تعني ألا تعود إلى الذنب بإرادتك، وأن يكون في قلبك كرهٌ له ورغبة صادقة في البعد عنه، لا مجرد تجنب مؤقت له بسبب ظروف معينة. قال تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135].
فاسأل نفسك: هل أصبحتُ أكره ذلك الذنب وأشعر بثقله لو حدث أن ضعفت؟
3- حب الطاعة والنفور من المعصية:
عندما يتغيَّر قلبك، ستشعر أن الطاعة أصبحت أحبَّ إلى نفسك، وأن المعاصي باتت ثقيلة على قلبك حتى لو كانت سهلة أمامك. ستجد نفسك تبحث عن عمل الخير، سواءً بالصلاة، أو قراءة القرآن، أو مساعدة الآخرين، أو الإنفاق في سبيل الله. قال النبي ﷺ: «مَن سرَّتهُ حسنتُهُ وساءتْهُ سَيِّئتُهُ فذلِكم المؤمنُ» [رواه الترمذي].
فاسأل نفسك: هل أصبحت أرتاح نفسيًّا عندما أقوم بعمل صالح، وأشعر بالضيق إذا قصّرت في العبادة؟
4- الطمأنينة والسكينة في علاقتك بالله:
حينما تكون صادقًا في توبتك، ستجد أن قلبك يزداد طمأنينة كلما اقتربت من الله. سيقلّ داخلك الشعور بالذنب الذي يحاصرك، ويحلّ مكانه الإحساس بالرجاء والرحمة. قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
اسأل نفسك: هل أشعر بأن علاقتي مع الله أصبحت أكثر راحة وسكينة؟
5- الإحساس بأنك على طريق التحسن المستمر:
التوبة ليست لحظة واحدة، بل رحلة مستمرة، والإنسان المؤمن دائمًا في حالة تطور إيماني وأخلاقي. فإذا كنت ترى أن لديك رغبة متزايدة في التطور، فهذا دليل على أن التغيير حقيقي. يقول النبي ﷺ «أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ» [رواه البخاري].
اسأل نفسك: هل أشعر أنني في رحلة مستمرة نحو الأفضل، ولو بخطوات بسيطة؟
6- الاستعداد للقاء الله بالرجاء وليس بالخوف فقط:
بعد التوبة، يتحول الشعور بالخوف من العقوبة إلى رجاء وشوقٍ للقاء الله وهو راضٍ عنك، فالمؤمن التائب يعمل الصالحات لأنه يحب الله ويرجوه، لا لأنه فقط يخاف من العقاب. قال النبي ﷺ: «مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ» [رواه البخاري].
اسأل نفسك: هل أشعر أنني أرجو الله وأشتاق للقائه؟
الخلاصة: مؤشر التغيير الحقيقي هو أن تشعر أنك شخص مختلف عن السابق. فإذا كنت تشعر بذلك فعلًا، فاعلم أنك –بفضل الله– في طريق التغيير الحقيقي، وما عليك إلا أن تواصل السير، ولا تلتفت أبدًا إلى وساوس الشيطان.
وختامًا أخي الحبيب، لا تجعل الماضي يسرق منك مستقبلك؛ بل اجعل من توبتك قصة نجاح بينك وبين الله، فكم من عاصٍ مرتكب للكبائر أصبح من أولياء الله، وكم من غافل عاد ليكون من المحسنين المذكِّرين الناس بالله وطاعته! فاستعن بالله، واجعل رحمة الله تملأ قلبك، فإن الله لا يخلف وعده لعباده التائبين.
أسأل الله أن يشرح صدرك، ويبدل قلقك طمأنينة، وذنوبك حسنات، وأن يجعلك من التائبين الذين يفرح بهم ربهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.