الإستشارة - المستشار : د. عادل عبد الله هندي
- القسم : دعوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
271 - رقم الاستشارة : 691
14/01/2025
ما أهم ملامح فقه الداعية في حركته الذاتية دعويا؟
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد:
فمرحبا بك أخي السائل الكريم، وأشكر لك همّتك وغيرتك على دعوتك ودينك، وأسأل الله تعالى أن يُديم علينا وعليك نعمة الفهم والوعي بأهمية العمل لهذا الدين، ثم إنّ ما سألت عنه لهو الشرف العظيم.
فليس هناك مَن هو أشرف ولا أكرم من الداعي إلى الله تعالى، وقد قال ربنا في كتابه المجيد: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، والجواب على هذا الاستفهام القرآني: لا أحد، أي: لا أحد أفضل ولا أشرف ولا أرقى ممّن دعا وعمل صالحا.
ومن هنا فإنّ سؤالَك الذي تقول فيه: ((ما أهم ملامح فقه الداعية في حركته الذاتية دعويا؟ لأن البعض يتحرك بالدعوة بلا فقه ولا وعي ولا علم))...
هو سؤال في غاية الأهمية؛ للأسباب التالية:
أولا: لأن حركة الداعية بدون فقه ووعي إيجابي بنّاء بطبيعة دعوته ورسالته، يعرّضه للمخاطر الكثيرة، كما يعرّض المجتمع للعديد من المشكلات والأزمات، وقد تكون دعوته فتنة لغيره.
ثانيًا: لوجود عدد كبير ممن أساءوا فهم وفقه النصوص، فاستخدموها على الوجه الخاطئ في التعبير والسلوك والتواصل مع المجتمع.
ثالثًا: لكثرة الحوادث التي وقعت من بعض منسوبي الدعوة، لا تنمّ عن ذرّة فقه أو فهم بطبيعة الدين وواقعيته وعمق رسالته.
ولذا يلزم شرعا وعقلا وعُرفًا وواقعيًّا أن يبحث الدعاة عن معالم فقه الداعية في نفسه وفي تواصله مع الجماهير، غير أني أخص الجواب هنا لما سألت عنه خاصة؛ حول فقه الداعية في ذاته، فأقول -وبالله التوفيق- إنّ من أهم معالم فقه الداعية، إجمالا: (الوعي قبل السعي، القدوة قبل الدعوة، الإحسان قبل البيان، الأمل لا اليأس، الإيجابية لا السلبية، الأصول قبل الفروع)، وعلى سبيل التفصيل إليك الآتي:
- الوعي (العلم) وهذا سلاح لسالك طريق الدعوة؛ فالعلم للداعية كالسلاح للجندي، إذا نزل معركته أمام عدوه بلا سلاح انهزم، والداعية -كذلك- إذا مارس الدعوة بلا علم انهزم وفقد الناس به الثقة، وعرّض نفسه ورسالته ومجتمعه للخطر، وقيمة العلم والتعلم قبل الدعوة والتكلم، تظهر فيما قاله الحسن البصـري -رحمه الله- من أن السائر بغير علم كالسالك على غير طريق، وأنّ ما يُفسد أكثر مما يُصلح.
- القدوة قبل الدعوة: فإنّ أول ما تقع عيون الجماهير على الداعية، ليس على قوله؛ بل على سلوكه؛ فحال الداعية في الجماهير أوثق وأقوى تأثيرا من مجرد الكلمات الجافة، التي لم تدبّ فيها الحياة، كما أن الناس تنتظر سلوك الداعية لتقتدي به، وقد قال حجة الإسلام (أبو حامد الغزالي – رحمه الله): العلم يُدرَك بالبصائر، والعمل يُدرك بالأبصار، وأرباب الأبصار أكثر، وقد لا حظنا في السيرة النبوية المواقف الكثيرة التي تعبّر عن أن سلوك الرسول غيّر في الصحابة الكثير والكثير، وإن أردت مثالا على ذلك، فعُد إلى صلح الحديبية وموقف حلْق الرأس ونحر الهدي.
- الأمل لا اليأس: إن فاقد الشـيء لا يعطيه، فكيف يمكن لداعية أن يبث الأمل ويزرع اليقين في قلوب الناس حوله، وهو فاقد له، كما أنّ الأمل ليس بشعار عادي في حياة المسلمين؛ إنما هو جزء من عقيدة المسلمين، قال تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] فاليأس ليس من أخلاق الدعاة إلى الله، وهم أكثر الناس ثقة بقدرة الله، وتبدّل الأحوال، وقد حضـر على أمّتنا الكثير والكثير من الأحداث التي كادت أن تعصف بالأمّة كلها، إلا أنّ الأُمّة ثبتت ونجت ووقفت على أقدامها ثابتة ترفل في ثبات عظيم، ونصر الله الدين بين حين وآخر، وإن مرّ به أحوال مؤلمة في زماننا، لكنها سنّة الله بهبوط وصعود الأمم والشعوب، وعلى الداعية أن يقرأ كتاب ربه يستلهم آيات الأمل والاستبشار؛ ليصنع مثله في نفوس الناس من حوله.
- الإيجابية لا السلبية: نعم إن الإيجابية ملمح في غاية الأهمية، فليس بداعية من كان سلبيًّا أو منهزما أو مترددا أو ذا شخصية رماديّة، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133]، وفي أكثر من موضع يدعونا للإيجابية، والداعية صاحب همة وفاعلية، وقيمته فيما يحسنه من حركة وبذل وتضحية، وهو سبيل جذب للجماهير المتحمّسة المتأمّلة فيه وفي أمثاله، كما أن القصص الملهمة التي حُكيت في القرآن، ويوجد مثلها في السنة والسيرة، لهي الزاد الملهم للداعية نحو الهمة والإيجابية، وأتذكر ما قاله (أبو القاسم الشابي): ومن يتهيّب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحُفر.
- الأصول قبل الفروع: وهذا فقه تستلزمه الأحداث المتأخرة في تاريخ أمتنا وأوضاعها؛ فبينما تزهق الأرواح وتُسفك الدماء، وتغتصب الحرمات، وتُهدم البيوت والمساجد والمستشفيات، ويُحاصر أهل الإيمان والتضحية، تجد من ينشغل بحكم حركة الإصبع في التشهد، وآخر لا زال منشغلا بنوعية النملة التي كلمت نبي الله سليمان (ذكر أم أنثى)، وآخر يبدّع درجات المنبر العالية، ويبدِّع الإسرار بالبسملة في قراءة الفاتحة عند الصلاة الجهرية، مع أنها فروع ولا يترتب عليها عظيم عمل أو قبول ورفض، لذا يلزم الداعية أن ينشغل ابتداء في دعوته بالأصول قبل أن ينشغل أو يُشغل غيره بالفروع.
وختامًا عليك أخي الداعية -وعلى كل داعية- أن يتحلَّى بوعي فقه الأولويات في دعوته، بحيث يميز بين ما هو أهم وما هو أقل أهمية، وليس كل أمر يمكن أن يُطرح في أي وقت ومع أي جمهور، وعليه أن يحدد ما يحتاجه المدعوون فعليًّا، لا ما يجيده هو أو يحب الحديث عنه، يبدأ بالدعوة إلى الأصول قبل الفروع، ويؤسس الإيمان في القلوب قبل الخوض في المسائل الفرعية.
وأسأل الله تعالى أن يحفظك بحفظه، وأن يوفقك لما فيه صلاح البلاد والعباد، وأن تكون خير مثل لدعوة الإسلام حيث كنت...