الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
84 - رقم الاستشارة : 1687
20/04/2025
أنا شاب نشأت في بيئة متدينة وأحاول أن أُثبِّت قلبي على الطريق، لكني في الفترة الأخيرة بدأت أتعرض لكثير من النقاشات والمجادلات من زملاء وأصدقاء لي يحملون أفكارًا إلحادية لا دينية، وبعضهم يطرح شبهات كثيرة تصيبني بالاضطراب أحيانًا، خاصة أني لست مهيأً للرد عليها.
من أكثر ما يؤثر في نفسي ما يثيرونه من طعن في حدود الشريعة، وبالذات حد الرجم، وقطع اليد، وحد الجلد في شرب الخمر، وحد القذف، ويصفونها بأنها "عنيفة" أو "غير إنسانية"، بل وبعضهم يسألني كيف أؤمن بدين يشرِّع هذه العقوبات العنيفة، ويضعني في موقف حرج كأنني أدافع عن "عنف" باسم الدين، على حد تعبيرهم.
أريد فهمًا عميقًا، يُثبِّت قلبي ويجعلني أُحسن الرد دون انفعال، خصوصًا أن الشبهات صارت تُطرح بلغة حقوقية وإنسانية مؤثرة.
بارك الله فيكم، ونفع بكم.
مرحبًا بك أيها الأخ الكريم، ونشكرك جزيل الشكر على مراسلتك لنا، وعلى هذه الثقة الغالية التي وضعتها فينا، وحُسن توجهك بالبحث عن الحق في مظانه. أسأل الله -تعالى- لك الثبات على الإيمان، ونور البصيرة، وسلامة القلب، وحُسن الخاتمة، وبعد...
فما ذكرته من الاضطراب عند التعرض للشبهات أمر مفهوم، بل هو من دلائل حياة القلب. فقد كان الصحابة يسألون النبي ﷺ عن مثل هذه الشبهات الإيمانية، وما عُدَّ ذلك ضعفًا، بل رغبة في الثبات، وسعيًا نحو اليقين.
وسؤالك هو في ذاته عبادة؛ لأن الله يحب عبده الذي يطلب العلم، ويسعى للفهم.
نظرة شاملة على الحدود في الإسلام
الحدود في الإسلام هي عقوبات شرعية مقررة بنصوص من الكتاب والسنة، الغاية منها حماية الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال.
ولم تشرع هذه الحدود للانتقام من الواقع فيها؛ بل لتحقيق الردع العام، وردع الجاني، وتطهير النفس، وصيانة المجتمع، فهي ضوابط تحفظ الكرامة الإنسانية لا تُهينها، وتردع الإثم لا تعاقب الفطرة.
الحدُّ لا يُطبَّق بالشبهة ولا بالهوى
الحدود في الإسلام ليست قرارات انتقامية، ولا تُقام لمجرد الظن أو التهمة، بل تُدرأ بالشبهات، أي أنه إذا وُجد أي مخرج شرعي يُسقط الحد، سقط.
وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: «ادْرَؤوا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتُم، فإن كان له مخرجٌ فخَلُّوا سبيلَه، فإنَّ الإمامَ إن يُخطِئ في العفوِ خيرٌ من أن يُخطِئَ في العُقوبةِ» [رواه الترمذي]. وهذه القاعدة تجعل تطبيق الحد آخر الطريق، بعد استنفاد كل وسائل دفعه، بالعدل والرحمة. وقد ثبت أن النبي ﷺ في أكثر من موضع حاول ألا يُقام الحد حتى على من جاء يعترف طواعية، وكان يُعرض عنه أكثر من مرة، ويُكرر إرجاءه، مقدمًا له أسبابًا للعودة.
الحدود مسؤولية الدولة لا الأفراد
ومن المهم هنا أن نُنبّه إلى أن الحدود الشرعية ليست مشاعًا لكل أحدٍ أن يقيمها أو ينفذها، بل هي من صلاحيات وليِّ الأمر أو من يُنيبه من القضاة والسلطات الشرعية المختصة، وذلك بعد استيفاء الشروط الدقيقة، والبيّنات المعتبرة، والإجراءات القضائية العادلة.
فلا تُترك الحدود لأفراد الناس؛ لأن الإسلام لم يُرد بها الفوضى، بل أراد بها الضبط والنظام تحت سلطة شرعية تُحسن النظر وتُقيم الحجة وتدرأ الشبهة.
وقد قال العلماء: «لا يُقيم الحدود إلا السلطان، أو من نصَّبه السلطان»؛ لأن في ذلك درءًا للفتنة، وحمايةً للأبرياء، ومنعًا لسفك الدماء بغير حق.
ولذلك، فوجود الحدود في التشريع لا يعني أن يُسارع أحد إلى تنفيذها، بل لا تُقام إلا ضمن منظومة عدل كاملة، وتحت رعاية الدولة الشرعية المسؤولة عن حماية الحقوق والأنفس.
حد الرجم حماية للأسرة والمجتمع
يُطبق حد الرجم على الزاني المحصن، أي الذي سبق له الزواج، وخان عهد الطهارة والستر. وذلك للحفاظ على الأسرة والعِرض والمجتمع من الفوضى الأخلاقية. ولا يُقام الحد إلا بضوابط كثيرة حددها الفقهاء، وهي ضوابط نادرة التحقق.
حد قطع يد السارق حماية للمال وحفظ للحقوق
وهو لا يطبق إلا على السارق المختار، في غير مجاعة، لمال محفوظ، ذي قيمة، بغير شبهة. وذلك حماية للأموال، وحفظًا للحقوق، ومنعًا للتعدي. وقد أوقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تطبيق هذا الحد في عام المجاعة.
حد جلد شارب الخمر صيانة للعقل والكرامة
فشرب الخمر كبيرة عظيمة، تُذهب العقل، وتفتح باب الفجور والعدوان. وقد اتُّفق على جلده ثمانين جلدة في عهد عمر رضي الله عنه. والحكمة من ذلك صيانة العقل، ومنع الفساد في الأرض، وتطهير النفس. والعقوبة ليست بدنية فقط، بل فيها زجر نفسي وأخلاقي لمن يجاهر بإدمان معصية تهدم المجتمع.
حد القذف صيانة للأعراض وسمعة الإنسان
فهذا الحد يمنع ثقافة التشهير والقذف، ويغلق باب الفتنة، ويُلزم الناس بالستر أو الإثبات، فيحمي السمعة ويمنع التفلت اللفظي، ويصون الأعراض من عبث الألسنة.
ماذا نقول للمعترضين باسم «الكرامة»؟
أولًا: من يحدد الكرامة؟ العقل القاصر؟ أم خالق الإنسان؟ قال الله تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
ثانيًا: من أرحم؟ الذي يضع قوانين دنيوية ناقصة، أم الله الذي قال: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].
ثالثًا: ما ثمار القوانين التي ألغت الحدود؟ فساد، وخمر، وزنا، وقذف، وسرقات، وتفكك أسري... هل هذه هي كرامة الإنسان؟
وصايا لتثبيت القلب:
أوصيك أخي الكريم بالتالي، لتستطيع الوقوف بوجه هذه الشبهات:
1- تعلُّم العلم الشرعي الراسخ.
2- لزوم الدعاء: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».
3- مصاحبة الصالحين.
4- عدم الخوض مع أهل الشبهات.
5- قراءة قصص الثابتين.
6- معرفة أن الشبهات فتنة، لا يُشفَى منها إلا من أنار الله بصيرته.
وختامًا أخي الحبيب، فإن هذه الحدود ما شُرعت إلا رحمةً بنا، وزجرًا للمفسدين، وطهارةً للمجتمع. وهي تشريعات من خالقٍ لطيفٍ، يعلم خفايا القلوب، ويُراعي مصلحة الجميع.
إن ما تراه عينك من «قسوة» في الحدود، هو في حقيقته عدلٌ عميقٌ، ورحمةٌ بعيدة النظر، وتربيةٌ للأمة على الطهر والانضباط.
اثبت على الحق، وكن ممن قال فيهم الله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [هود: 112]، ولا تهتز بما يقول من لا يعلم، فإن نور الله لا يُطفأ.
نسأل الله أن يثبتك، ويرزقك البصيرة، ويجعلك سببًا في هداية غيرك.