الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
19 - رقم الاستشارة : 2735
20/09/2025
أنا طالبة جامعية، أرى كيف أن كثيرًا من الفتيات في مثل سني يحققن شهرة ومالًا وفيرًا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وبالأخص "تيك توك". أجد نفسي منجذبة جدًا لهذا العالم، وأتمنى لو أستطيع أن أجرب حظي لأحقق استقلالًا ماديًا وشهرةً مثلهم.
المشكلة أن أسرتي ترفض الفكرة تمامًا. هم ليسوا ضد السوشيال ميديا بشكل عام، لكنهم يحذرونني بشدة من هذا الطريق. يقولون لي إن البداية تكون دائمًا بمحتوى "محترم"، ولكن مع الوقت، ومع عدم تحقيق المشاهدات أو الأرباح المرجوة، تبدأ الفتاة في التنازل شيئًا فشيئًا. وهذا ما رأيناه يحدث مع الكثيرات؛ فمن كانت ملتزمة بحجابها أصبحت تتخلى عنه تدريجيًا، ومن كانت تقدم محتوى مفيدًا أصبحت تقدم محتوى تافهًا أو غير لائق لجذب الانتباه.
أنا أُقسم أن نيتي هي تقديم محتوى جيد ومفيد، وأحاول إقناعهم بأنني لن أنجرف، لكن خوفهم شديد. هل هذا الخوف مبرر؟ وهل فعلاً طريق الشهرة هذا لا يمكن السير فيه دون تقديم التنازلات؟ وكيف يمكنني أن أجمع بين رغبتي في تحقيق ذاتي وتحقيق بعض المال، وبين الحفاظ على مبادئي الدينية والأخلاقية؟ أرجو منكم النصح والإرشاد، وما هي الضمانات التي يمكن أن أتخذها لأحمي نفسي من أي انحراف؟
مرحبًا بك ابنتي الغالية، وأسأل الله أن يبارك فيك، وأن يثبت قلبك على الحق، وأن يرزقك من فضله رزقًا طيبًا حلالًا مباركًا فيه، وبعد...
فإني أؤكد لك يا ابنتي أن خوف أهلك عليك ليس مجرد وسوسة؛ بل هو خوف نابع من قلوب محبة لك ترى ما لا ترين، وتخشى عليك من زلل قد لا تستطيعين تداركه.
خوف الأهل محبة ورعاية
إن قلب الأم والأب يرى أبعد مما تراه عين الابن أو الابنة. هم يرون فيك مشروعًا عظيمًا، ويريدونك أن تكوني درة مصونة لا تُخدَش بأي شيء. فهذا الخوف ليس قيدًا؛ بل هو سياج أمان. ولقد أمرنا الله ببر الوالدين والإحسان إليهما، وجعل طاعتهما في غير معصية الله واجبة، فقال سبحانه: ﴿وقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إلا إيَّاهُ وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]. فاستمعي لنصح والديك، ففيه خير لك، وقد يكون حائط الصد الأول الذي يحميك من التيه.
طبيعة عالم الشهرة والثراء السريع
إن عالم الشهرة على مواقع التواصل الاجتماعي مبني على حسابات، وما يسمونه «خوارزميات» قد لا تتوافق دائمًا مع القيم والمبادئ. هذا العالم يطلب منك شيئًا واحدًا: لفت الانتباه. وكلما كان المحتوى أكثر جذبًا للعيون، زادت المشاهدات، وبالتالي زادت الأرباح. وهنا تكمن المشكلة.
فخ التنازلات التدريجية
كلام أهلك عن التنازلات ليس مجرد تخمين؛ بل هو واقع مرير رأيناه مرارًا. البداية تكون بمحتوى «محترم»، ولكن بعد فترة، ومع عدم تحقيق النجاح المرجو، يبدأ الشخص في البحث عن طرق أخرى لزيادة التفاعل، قد تبدأ بتنازلات صغيرة، يزينها الشيطان ويهونها، ثم تكبر وتتضخم مع الوقت وخطوة خطوة، يأخذه الشيطان إلى الانهيار الكامل، والتفسخ من كل القيم، وكل ذلك من أجل الوصول إلى «الترند» أو الشهرة.
احذري خطوات الشيطان
ابنتي الغالية، إن ما يحدث في هذا الطريق يندرج تمامًا تحت مفهوم «خطوات الشيطان» التي حذرنا الله –تعالى- من اتباعها في كتابه الكريم. لقد أمرنا –سبحانه- بألا نتبعها؛ لأنها تقود إلى الهلاك والفساد، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ومَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ﴾ [النور: 21].
فالشيطان لا يأتي للإنسان مباشرةً ليأمره بالمعصية الكبرى؛ بل يأتي إليه بخطوات صغيرة ومقبولة في ظاهرها، ثم يستدرجه شيئًا فشيئًا حتى يوقعه في الفحشاء والمنكر. وهذا ما يحدث بالضبط في عالم الشهرة؛ تبدأ الفتاة بنشر محتوى بسيط (محترم)، والشيطان يوسوس لها: «هذا مجرد تمثيل، هذه لن تؤثر على دينك»، ومع الوقت، ترى عدم تحقيقها للشهرة التي تتمناها، فيوسوس لها: «لو خضعت بالقول أكثر، لو أزلت جزءًا من حجابك، لو تكلمت في موضوعات معينة، فستصبحين أكثر جاذبية، وستزيد مشاهداتك». وهكذا، خطوة بعد خطوة، حتى تصل إلى ما لا تُحمد عاقبته. وفي واقع الناس قديمًا وحديثًا ما يشهد بهذا، ويؤكد حدوثه.
تحقيق الذات مع الحفاظ على الدين والقيم
يا ابنتي، إن تحقيق الذات والمال ليس موقوفًا على طريق واحد؛ بل هناك طرق كثيرة مباركة وآمنة، تضمن لك النجاح في الدنيا والآخرة، وفيها ما يغنيك عن كل مخاطرة. وأنصحك بما يلي:
1. البحث عن البديل المبارك:
ليس كل طريق يؤدي إلى الشهرة يكون مباركًا. انظري إلى مواهبك وقدراتك الحقيقية. هل تجيدين الكتابة؟ هل لديك موهبة في التصميم؟ هل تستطيعين مساعدة غيرك في دراستهم؟ هناك كثير من الطرق التي يمكنك من خلالها تحقيق الاستقلال المادي دون أن تعرضي نفسك للفتن أو التنازلات، منها:
- العمل الحر: يمكنك العمل على الإنترنت في مجالات مختلفة، كالكتابة، أو الترجمة، أو تصميم الجرافيك، أو حتى التدريس عبر الإنترنت. هذه المجالات تضمن لك دخلًا جيدًا، وتنمي مهاراتك، وتحافظ على قيمك في الوقت نفسه، وهناك الكثير من المواقع التي تتيح ذلك فابحثي عنها، وتواصلي معها.
- إنشاء مشروع صغير: فكري في مشروع صغير يتناسب مع موهبتك وقدراتك، مثل صناعة منتجات يدوية، أو بيع أشياء تفيد غيرك.
2. النية الصالحة والرقابة الذاتية:
يا ابنتي، إن نيتك الطيبة في تقديم محتوى جيد ومفيد هي بداية موفقة، لكن اعلمي أن النية وحدها لا تكفي، بل لا بد أن يصاحبها العمل الصالح. لقد قال الله تعالى: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 2 و3]. وقال: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4].
إن من يتقِ الله ويخاف منه، يوجد الله له مخرجًا من كل ضيق، ويرزقه من حيث لا يتوقع، وييسر له أموره. فاجعلي تقوى الله هي الأساس في كل خطوة تخطينها، واعلمي أن الله مطلع على قلبك وعملك.
3. التزود بالعلم الشرعي والرفقة الصالحة:
أكبر حماية لك من الانجراف هي العلم الشرعي الذي ينير دربك، ومعرفة الحلال والحرام، والرفقة الصالحة التي تعينك على طاعة الله. فصاحبي الفتيات الصالحات اللاتي يذكرنك بالآخرة، ويبعدنك عن كل ما يلهي. يقول الله عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]. وقال ﷺ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَليلِه؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخالِلْ» [رواه أبو داود].
ضمانات عدم الانحراف
الضمانات الحقيقية ليست في كلمات أو تعهدات، بل هي في القلب، وفي السلوك اليومي، منها:
- الاستشارة المستمرة والدعاء: استمري في استشارة من تثقين في دينهم وعقلهم، وخصوصًا أهلك. واعلمي أن الدعاء هو سلاح المؤمن. ادعي الله دائمًا أن يثبتك، وأن يحفظك، وأن يرزقك الرزق الحلال. لقد كان النبي ﷺ يدعو: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» [رواه الترمذي].
- تحديد الأولويات: اجعلي رضا الله هو أولويتك الأولى، ثم رضا والديك، ثم دراستك. المال والشهرة يأتيان في المرتبة الأخيرة. تذكري قول النبي ﷺ: «من كانت الدنيا همه، فرّق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كانت الآخرة همه، جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» [رواه ابن ماجة].
* التعامل مع المال كوسيلة لا كغاية: المال وسيلة لتحقيق حاجاتك، وليس غاية في حد ذاته. فاجعليه وسيلة لتحقيق أهداف نبيلة.
وختامًا يا ابنتي، إن الحياة ليست سباقًا نحو الشهرة والمال السريع؛ بل هي رحلة إيمانية وأخلاقية نحو الهدف الأسمى، وهو رضا الله والجنة. لا تسمحي لإغراءات هذا العصر أن تلهيك عن هذا الهدف. وانظري لهؤلاء الذين انجرفوا في الطريق الخطأ، واعتبري بعاقبة سعيهم، وما طالهم من فضائح ولعنات وضنك في العيش، رغم ما جمعوه من أموال، وما نالوه من شهرة.
كوني قوية بمبادئك، غنية بقيمك، واثقة بالله الذي لن يضيع سعيك الصالح. أسأل الله أن يفتح عليك أبواب الخير والرزق الحلال، وأن يحفظك من كل سوء.
روابط ذات صلة:
ابنة أخي وأمها من أبطال التيك توك.. كيف أتصرف؟!!