من الأحكام الفقهية والتربوية من آية الدين

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : د. رجب أبو مليح محمد
  • القسم : علوم القرآن والحديث
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 172
  • رقم الاستشارة : 3284
13/11/2025

ما أهم الأحكام الفقهية والأخلاقية التي يمكننا استخراجها من آية الدين؟

الإجابة 13/11/2025

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

 

فآية الدين هي أطول آية في القرآن الكريم، وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم، وقد حشد الله تعالى فيها من الأحكام الفقهية والأخلاقية والتربوية ما لا يمكن حصره هنا، فهي تحتاج إلى مؤلف ضخم.

 

أهم الأحكام

 

ولعل من أهم هذه الأحكام الحث على توثيق الحقوق، وتدقيق العقود، والكتابة بالعدل، وتمكين من عليه الحق أن يملي هو ما عليه حتى يكون إقرارًا خاليًا من الإذعان والإكراه، والأمر بالتقوى لكافة أطراف العقود ولكتبة العقود والشهود، ويمكنك -أخي الكريم – مراجعة تفسير القرطبي والتحرير والتنوير والظلال للوقف على أهم الدروس والأحكام الفقهية والأخلاقية في هذه الآية الكريمة.

 

من الأحكام الفقهية:

 

1. وجوب (أو استحباب) كتابة الدين، الأمر الصريح ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾.. وقد حمل جمهور الفقهاء الأمر على الاستحباب المؤكد والإرشاد؛ لأنه يهدف لحفظ الحقوق وقطع النزاع، وليس شرطًا لصحة الدين. والدليل على أنه ليس واجبًا، قول الله في الآية التالية: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾.

 

وحمل بعض العلماء كالظاهرية وقول للإمام الطبري الأمر على الوجوب لظاهر صيغة الأمر، ولعل هذا الرأي هو ما يصلح لهذا الزمان فكثير من المشكلات التي تحدث في المعاملات المالية يكون سببها الرئيس هو عدم كتابة وتوثيق الحقوق.

 

2. ضرورة تحديد الأجل: ﴿إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾.. لا يصح الدَّين المؤجل إلا بتحديد موعد سداد واضح ومعروف للطرفين (يوم كذا، شهر كذا)، منعًا للجهالة التي قد تؤدي للنزاع.

 

3. دور الكاتب العدل: ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾.. فيجب أن يكون الكاتب طرفًا ثالثًا محايدًا وأن يتصف بالعدل والأمانة، فلا يميل لأحد الطرفين. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾: حثٌّ لمن وهبه الله علم الكتابة والتوثيق ألا يمتنع عن مساعدة الناس، فهذه زكاة علمه.

 

4. الإملاء من قِبل المدين: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾.. المدين هو الذي يقرّ بالدين ويملي على الكاتب، لأن هذا إقرار منه بالحق الذي في ذمته، وهو أبعد عن الشبهة.

 

5. الولاية على ناقص الأهلية: ﴿فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾.. إذا كان المدين قاصرًا، أو سفيهًا لا يحسن التصرف، أو ضعيفًا، أو لا يستطيع الكلام، يتولى وليّه (كالأب أو الوصي) الإقرار عنه بالعدل. وهذا من عظمة الإسلام في رعاية حقوق الضعفاء.

 

6. الإشهاد على الدَّين: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ﴾.. فالأصل شاهدان من الرجال المسلمين العدول، فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ عند عدم وجود رجلين، يجزئ رجل واحد وامرأتان. والحكمة في ذلك -كما وضحتها الآية- ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ لطبيعة المرأة العاطفية وابتعادها غالبًا عن مجالات المعاملات المالية، فالشهادة هنا للتذكير وليست نقصانًا في أهليتها.

 

7. جواز ترك الكتابة والإشهاد في التجارة الحاضرة: ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾.. البيع والشراء اليومي المباشر (يدًا بيد) لا يلزم فيه كل هذا التوثيق، تيسيرًا على الناس.

 

8. الإشهاد عند البيع: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾.. أمر بالإشهاد على عقود البيع أيضًا، وهو للاستحباب عند الجمهور، لقطع أي نزاع مستقبلي حول الثمن أو السلعة.

 

ومن الدروس التربوية والأخلاقية:

 

1. مخاطبة أهل الإيمان: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..... النداء بالإيمان يذكرنا بأن تطبيق هذه الأحكام هو من صميم إيماننا بالله وطاعتنا له. حفظ الحقوق ليس مجرد قانون مدني، بل هو عبادة نتقرب بها إلى الله.

 

2. تعظيم قيمة العدل: تكررت كلمة "بِالْعَدْلِ" مرتين في الآية، فالعدل هو روح المعاملات كلها، سواء من الكاتب أو الولي. وهذا يربي في النفس المسلمة الإنصاف وتجنب الظلم.

 

3. الأمانة وحفظ الحقوق: الآية كلها تدور حول محور "حفظ الحقوق". هي تربي المسلم على أن يكون أمينًا، لا يأكل أموال الناس بالباطل، ويحرص على حقوق غيره كحرصه على حقه تمامًا. المؤمن مرآة أخيه.

 

4. الشفافية والوضوح: الإسلام يكره الغموض والجهالة في المعاملات لأنها بذور الشقاق. الكتابة، تحديد الأجل، الإشهاد، كلها وسائل لتحقيق الوضوح المطلق الذي يريح القلوب ويحفظ العلاقات.

 

5. الحفاظ على الأخوة والمودة: والقرآن يقرر أن الكتابة هي أقوى سبب للحفاظ على هذه الثقة والمودة.

 

6. التقوى هي الضمان الأسمى: تختم الآية بالأساس الذي تقوم عليه كل هذه التشريعات: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، وهذا تذكير بأن القوانين وحدها لا تكفي. الضمير الحي والخوف من الله (التقوى) هو الذي يضمن تطبيق هذه الأحكام بروحها ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾: ربط عجيب بين التقوى والعلم. كلما اتقى العبد ربه في معاملاته، فتح الله عليه من أبواب الفهم والبصيرة والحكمة.

 

والله تعالى أعلى وأعلم.

 

روابط ذات صلة:

المقصد من جعل المدين هو من يملي العقد

كيف أحفظ حقوقي عند الناس؟

الرابط المختصر :