الإستشارة - المستشار : د. رجب أبو مليح محمد
- القسم : علوم القرآن والحديث
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
318 - رقم الاستشارة : 2897
06/10/2025
كيف نوفق بين قول الله تعالى ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 79] وبين قوله تعالى في الآية التي قبلها ﴿... قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 78]، وهل هناك تعرض بينهما؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فلا يتصور التعارض في كتاب الله وقد قال الله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
فكل من الحسنة والسيئة من الله تعالى علمًا وإحاطةً وتقديرًا، فلا يقع في ملكه – سبحانه - إلا ما يريد، والحسنة محض فضل من الله تعالى، والسيئة بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير.
يقول الله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 78].
ويقول في الآية التي تليها: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 79].
الحسنة منة من الله.. والسيئة تفريط من العبد
يقول ابن عاشور – رحمه الله – في التحرير والتنوير:
فَإذا جاءَتِ الحَسَنَةُ أحَدًا فَإنَّ مَجِيئَها إيّاهُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى لا مَحالَةَ مِمّا لا صَنْعَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، أوْ بِما أرْشَدَ اللَّهُ بِهِ العَبْدَ حَتّى عَلِمَ طَرِيقَ اجْتِناءِ الحَسَنَةِ، أيِ الشَّيْءِ المُلائِمِ، وخَلَقَ لَهُ اسْتِعْدادَهُ لِاخْتِيارِ الصّالِحِ فِيما لَهُ فِيهِ اخْتِيارٌ مِنَ الأفْعالِ النّافِعَةِ حَسْبَما أرْشَدَهُ اللَّهُ تَعالى، فَكانَتِ المِنَّةُ فِيها لِلَّهِ وحْدَهُ، إذْ لَوْلا لُطْفُهُ وإرْشادُهُ وهَدْيُهُ، لَكانَ الإنْسانُ في حَيْرَةٍ، فَصَحَّ أنَّ الحَسَنَةَ مِنَ اللَّهِ، لِأنَّ أعْظَمَ الأسْبابِ أوْ كُلَّها مِنهُ.
أمّا السَّيِّئَةُ فَإنَّها وإنْ كانَتْ تَأْتِي بِتَأْثِيرِ اللَّهِ تَعالى، ولَكِنَّ إصابَةَ مُعْظَمِها الإنْسانَ يَأْتِي مِن جَهْلِهِ، أوْ تَفْرِيطِهِ، أوْ سُوءِ نَظَرِهِ في العَواقِبِ، أوْ تَغْلِيبِ هَواهُ عَلى رُشْدِهِ، وهُنالِكَ سَيِّئاتُ الإنْسانِ مِن غَيْرِ تَسَبُّبِهِ مِثْلَ ما أصابَ الأُمَمَ مِن خَسْفٍ وأوْبِئَةٍ، وذَلِكَ نادِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِأكْثَرِ السَّيِّئاتِ، عَلى أنَّ بَعْضًا مِنهُ كانَ جَزاءً عَلى سُوءِ فِعْلٍ، فَلا جَرَمَ كانَ الحَظُّ الأعْظَمُ في إصابَةِ السَّيِّئَةِ الإنْسانَ لِتَسَبُّبِهِ مُباشَرَةً أوْ بِواسِطَةٍ، فَصَحَّ أنْ يُسْنِدَ تَسَبُّبَها إلَيْهِ، لِأنَّ الجُزْءَ الَّذِي هو لِلَّهِ وحْدَهُ مِنها هو الأقَلُّ.
وقَدْ فَسَّرَ هَذا المَعْنى ما ورَدَ في الصَّحِيحِ، فَفي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ "ما يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَما فَوْقَها أوْ ما دُونَها إلّا بِذَنْبٍ وما يَعْفُو اللَّهُ أكْثَرُ".
وشَمَلَتِ الحَسَنَةُ والسَّيِّئَةُ ما كانَ مِنَ الأعْيانِ، كالمَطَرِ والصَّواعِقِ، والثَّمَرَةِ والجَرادِ، وما كانَ مِنَ الأعْراضِ كالصِّحَّةِ، وهُبُوبِ الصَّبا، والرِّبْحِ في التِّجارَةِ. وأضْدادِها كالمَرَضِ، والسَّمُومِ المُهْلِكَةِ، والخَسارَةِ أ.هـ مختصرًا.
تحقق الفعل بإرادة وقدر الله
ويقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله - في الظلال:
إن الله هو الفاعل الأول، والفاعل الواحد، لكل ما يقع في الكون، وما يقع للناس، وما يقع من الناس. فالناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا. ولكن تحقق الفعل -أي فعل- لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر. فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيئة، وإيقاعها بهم، للرسول ﷺ وهو بشر منهم مخلوق مثلهم - نسبة غير حقيقية؛ تدل على عدم فقههم لشيء ما في هذا الموضوع. إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير؛ بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقق الخير. ولكن تحقق الخير فعلا يتم بإرادة الله وقدره. لأنه ليست هناك قدرة - غير قدرة الله - تنشئ الأشياء والأحداث وتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع. وإذن يكون تحقق الخير - بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتجاه الإنسان وجهده - عملاً من أعمال القدرة الإلهية. وإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء. أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء. ولكن وقوع السوء فعلاً، ووجوده أصلاً، لا يتم إلا بقدرة الله وقدر الله. لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله.
والله تعالى أعلى وأعلم.
روابط ذات صلة: