<p>هل حظي الكتاب في التراث الإسلامي باهتمام؟ وكيف نظر العلماء المسلمون إلى الكتاب على أنه كائن حي؟</p>
أخي الكريم، الكتاب هو رمز العلم والمعرفة، وتقديره هو تقدير للعلم والمعرفة، وفي التراث والحضارة الإسلامية حظي الكتاب باهتمام كبير للغاية، تأليفًا وتشجيعًا ونسخًا وتجليدًا وزخرفة، وإنشاءً للمكتبات.
فضائل الكتاب
اهتم الكثير من العلماء المسلمين في الحضارة الإسلامية بالحديث عن فضائل الكتاب، تشجيعًا على طلب العلم، وحثًّا على اقتناء الكتب، باعتبارها مدخل المعرفة والحكمة، ولهذا كانت كلماتهم وعباراتهم حول فضائل الكتاب تشبه الغزل في المرأة الجميلة، تبرز المحاسن وتشجع على الشغف والاقتراب والاقتناء، فيقول الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي يقول عن الكتاب: "وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ".
القاضي "ابن التوزي" واسمه "أحمد بن علي بن الحسين" وهو من قضاة وأدباء بغداد في القرن الرابع الهجري، ذكر في أحد كتبه نصًّا مدهشًا عن الكتاب قال فيه: "الكتاب نديم، عهد وفائه قديم، الكتاب منادم، ليس من نادمه بنادم، الكتاب حميم، خيره عميم، الكتاب أخ غير خوان، فتفرد به عن الإخوان، الكتاب سمير سليم الظاهر والضمير".
ومن الأقوال التي يحتفظ بها التراث الإسلامي، ما كتبه العلامة "الجاحظ" في رسالة فريدة اسمها "في مدح الكتب والحث على جمعها"، وكان سبب تأليف الجاحظ لهذه الرسالة، هو أن أحد الأشخاص عاب عليه شغفه بالكتب، فرأى الجاحظ أن يرد عليه برسالة، تعد من عيون التراث العربي في هذا الباب- لبيان فضائل الكتب وشمائلها، حتى قيل عن هذه الرسالة إنه لن يجد أحدًا أجمل من عبارات الجاحظ في التعبير عن حب الكتاب وتقديره، والطريف أن مكتبة "وارسو" في بولندا التي تعد من أجمل المكتبات في أوروبا، اقتبست نصًّا من تلك الرسالة، ونقشته باللغة العربية على مدخلها؛ إذ إنه من النصوص التي بقي تأثيرها عابرا للحضارات في حب الكتاب.
قال الجاحظ في مقدمة تلك الرسالة: "عِبْتَ الكِتَابَ وَنِعْمَ الذُخْرُ والعُقْدَة ونِعْمَ الجَليسُ والعَمْدةُ ونِعْمَ النُشْرةُ والنُزْهةُ ونِعْمَ الْمُسْتَغَلُّ والحِرْفَةُ ونِعْمَ الأنيسُ ساعَةَ الوَحْدةِ وَنعْمَ المَعْرِفَةُ بِبِلادِ الغُرْبَةِ ونِعْمَ القَرِينُ والدَّخِيلُ والوَزِينُ والنَّزِيلُ والكِتابُ وِعاءٌ مُلِىءَ عِلْمًا وظَرْفٌ حُشِىءَ ظُرْفًا وإنَاءٌ شُحِنَ مُزَاحًا وجِدًّا إنْ شِئْتَ كانَ أبْيَنَ مِن سَحْبان وائلٍ وإنْ شِئْتَ كان أَعْيا مِنْ باقلٍ وإنْ شِئْتَ ضَحِكْتَ مِنْ نَوادِرِه وعَجِبْتَ مِنْ غَرائِبِ فَرائِدِه وإنْ شِئْتَ شَجَتْكَ مَوَاعِظهُ".
أما النص المنقوش من الرسالة على مكتبة وارسو فجاء فيه: "الكتاب هو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يخفرك.. وإن عُزلت لم يدع طاعتك، وإن هبت ريح أعدائك لم ينقلب عليك.. ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارة مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم ومن فضول النظر ومن عادة الخوض فيما لا يعنيك".
الكتاب قبل مؤلفه
أما المؤرخ والأديب "الخطيب البغدادي" في القرن الخامس الهجري، ففي كتابه "تقييد العلم" وهو من الكتب المهمة في التأريخ لتدوين العلم، والحكم الشرعي في عملية التدوين، فكتب رأيًّا مدهشًا قد لا يحظى باتفاق في التراث الإسلامي، فهو يفضل أخذ العلم عن طريق الكتاب عن الأخذ من واضع الكتاب، ويعلل ذلك بأن اللقاء بين المتعلم وواضع الكتاب قد يُحدث شيئًا من التحاسد أو الكبر أو أي شيء نفسي قد يعيق عملية التعلم، على خلاف أخذ المتعلم من الكتاب.
ومما ذكره الخطيب البغدادي في مدح الكتاب في "تقييد العلم": "وقيل لبعضهم: أما تستوحش؟ فقال: يستوحش من معه الأنس كله؟ قيل وما الأنس كله؟ قال الكتب.
وقيل لآخر: ألا تنادم فلانًا؟ فقال: قد نادمت من لا يتكلف لي ولا أتكلف له. قيل: ومن هو؟ قال: الكتاب.
وتأخر عن بعض الرؤساء نديم له فقال: يا غلام عليّ بالنديم الذي لا يتغير، ولا يتغيب. قال: من هو؟ قال الكتاب.
وقال بعض الوزراء: يا غلام ائتني بأنس الخلوة، ومجمع السلوة، فظن جلساؤه أنه يستدعي شرابًا، فأتاه بسفط (وعاء) فيه كتب. وقيل لرجل من يؤنسك؟ فضرب بيده إلى كتبه وقال: هذه".
روابط ذات صلة: