<p>لماذا تتراجع السعادة في حياة الإنسان المعاصر رغم توفر المقومات المادية؟ وهل السعادة ترتبط بأفكارنا وعقولنا وما نؤمن به أم أن السعاده حسابات مادية؟</p>
أخي الكريم، الملاحظ أن الإنسان المعاصر يعاني من أزمة مع السعادة، ففي مجتمعات الوفرة والرفاهية تجد سؤال السعادة مطروحًا ويناقش في المجال العام، وفي المجتمعات التي تعاني من ضعف مؤشرات التنمية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية فسؤال السعادة مطروح على الوجوه البائسة العابسة.
السعادة تعتمد علينا
تؤكد دراسات غربية أن "الوحدة والقلق والأرق والهشاشة كلها سمات بارزة للوجود الحديث"، فقد كان الحلم في المجتمعات الحديثة أن تُمكن الفرد من عيش حياة أكثر سعادة، وكان التعويل على التقدم والتنوير أن يدفع إلى مزيد من الرخاء ومن ثم مزيد من السعادة، لكن هذا التفاؤل أخذ في التراجع مع بديات القرن العشرين، وبدا لكثير من المفكرين وعلماء الاجتماع الغربيين "أن للتقدم وجــهًا مظـلـــمًا".
ربما يُفهم بعض مظاهر التعاسة في مجتمعات الفقر وضعف التنمية، لكن ما يحتاج إلى فهم لماذا يعاني الإنسان من فقدان السعادة في المجتمعات المتقدمة ذات الوفرة، وهل فشلت المادية في تحقيق السعادة، لذا كانت أوجاع الروح صاخبة وعبرت عن نفسها في الجرائم والانتحار وحالات الاكتئاب؟
يقول أرسطو "السعادة تعتمد علينا" في دراسة فريدة أجرتها جامعة "هارفارد" الأمريكية على مدار 75 عامًا، بدأت في العام 1938م ونشرت في العام 2012م، خلصت إلى أن السعادة تأتي من اختيار الشخص لأن يكون سعيدًا، وتأتي مع تعزيز العلاقات والصلة مع الأشخاص المقربين، ورعاية نفسه جسديًّا وماليًّا ونفسيًّا.
وأكدت دراسات أخرى أنه يمكن أن تكون سعيدًا إذا أردت ذلك، ومعنى هذا أن المكون الأساسي في السعادة هو ذاتي داخلي نابع من إرادة الفرد الداخلية، ونابع من رؤيته لذاته وما حوله وكيفية إدارة علاقته بين الذات والخارج.
أشارت دراسات إلى أن السعادة تتحقق من فعل الخير للآخرين، وفعل الشخص لما يرغبه ويبرع فيه، وأكدت دراسة حديثة أن الأشياء المادية من غير المرجح أن تعزز سعادتنا بشكل مستدام أو ذي معنى، وأن الأشخاص الماديين أقل سعادة من أقرانهم، فهم يشعرون بمشاعر إيجابية أقل، ويشعرون برضا أقل عن الحياة، ويعانون من مستويات أعلى من القلق والاكتئاب وإدمان المخدرات.
الخلاصة أن المادية قد تكون فخًّا للتعاسة وليست سبيلا للسعادة، فالأشخاص الذي يضعون اقتناء الأشياء المادية في صميم حياتهم، ويجعلونها معيارًا للنجاح أو الفشل يكونون أقل سعادة وأكثر قلقًا وتوترًا وهشاشة، ويشعرون بانخفاض رضاهم عن حياتهم ككل، وعن مقدار المتعة والتسلية التي يحصلون عليها من حياتهم اليومية، ويعانون من مشاعر سلبية أكثر كالخوف والحزن.
المادية وتراجع السعادة
نتائج كثير من الدراسات الميدانية تؤكد شعور الماديين بسعادة أقل، وتشير الأبحاث إلى أن فقدان الماديين للسعادة بسبب أن لديهم توقعات عالية بشكل غير واقعي بشأن مقدار السعادة التي ستجلبها لهم السلع المادية، وعندما لا تتحقق هذه التوقعات فإنهم يشعرون بالإحباط.
وهذا يتفق مع ما قاله الفيلسوف الانجليزي "راسل" الذي أصدر كتابًا عن السعادة في الثلاثينيات من القرن الماضي، وكان معروفًا بإلحاده، ورأى في الدين عنصرًا لا يحقق السعادة، وعلل فرضيته تلك بأن الدين يخلق حالة من عقدة الذنب تفسد على الإنسان سعادته، أما البديل الذي اقترحه "راسل" فكان الحماسة للحياة واستقبالها بشغف، ونبه إلى أن السعادة لا تأتي إلا بعد بذل جهد.
ورغم تلك الرؤية المعادية للدين في تحقيق السعادة، فإن هذا يؤكد أن السعادة أزمة للإنسان المعاصر الذي يعاني من فقدان اليقين، في ظل فلسفة مادية أنتجت الفردية الشديدة، وقرنت السعادة بالاستهلاك، وهو جعل مقاييس السعادة مادية بحتة.
ونعود إلى ما كتبه "راسل" فيما يتعلق بسيطرة المقاييس المادية على الإنسان المعاصر، فجعلته يفقد جزءًا كبيرًا من سعادته، فقد فرضت المادية منطقها على الإنسان المعاصر وولدت نوعًا من السخط على الحياة في ظل دوامة المقارنات التي لا تنتهي، فتراجع الرضا عن الذات والحياة، وتراجعت معه السعادة.
أشار "راسل" إلى أن الذي يخافه الناس ليس فشلهم في الحصول على طعامهم، ولكن شعورهم أنهم سيفشلون في التفوق على جيرانهم، فهذا الإحساس يفقد الإنسان البهجة؛ فالمقاييس المادية تولد الحسد والغيرة والأحقاد والتنافس الشرس.
ولعلنا نختم الحديث بتلك العبارة الجامعة للأديب مصطفلى لطفي المنفلوطي: "حسبك من السعادة، ضمير نقي، ونفس هادئة، وقلب شريف".
روابط ذات صلة:
ما هي أخلاق الفقر وتأثيرها على المجتمع؟
ما علاقة الرقمية بانتشار روح الحسد؟
هل أثرت المادية على مفهوم الزواج؟