الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
364 - رقم الاستشارة : 1798
01/05/2025
أجلس بينهم.. وأشعر أنني غريبة!" نعم لماذا الناس لا يتعاطفون مع أهل غزة؟ كأنها جمرة في حلقي! لا أستطيع أن أشاركهم الطعام الذي اشتروه من مطعم يدعم الكيان الصهيوني. كل قطعة ملابس يرتدونها.. من شركات داعمة للصهاينة كأنها سكين في قلبي!
عندما أذكر 'المقاطعة'.. يضحكون! يقولون: "هل ستنقذين فلسطين بسندويتش؟!" "هل ستهزمين إسرائيل بقميص؟!" لكن.. أنا أرى في مقاطعة منتجاتهم صرخةً.. وقفةً.. بصمة.. ولو كانت صغيرة.. فهي شهادة أننا لم ننساهم! فلماذا لا يفهمون؟ لماذا يسخرون من محاولتي؟
أنا لا أطلب منهم أن يكونوا أبطالًا.. فقط ألا يكونوا حصاةَ عثرة في طريق المقاومين! أريد جوابًا يشرح:
حكم المقاطعة في ظل هذه الظروف.
كيف أتعامل مع سخرية الأصحاب؟
هل فعلاً للمقاطعة أثر؟ أم هي مجرد عواطف؟
كيف أوازن بين الالتزام والحفاظ على صداقاتي؟
والله.. لستُ متطرفةً.. ولستُ أبحث عن كمالٍ غير موجود.. لكني أريد أن أعيش بضميرٍ حي.. حتى لو كنتُ وحدي!
أرجوكم.. ساعدوني في فهم الصواب!
مرحبًا بكِ أيتها الطيّبة الصادقة، وشكرًا جزيلًا لك على مراسلتكِ لنا، وعلى ثقتكِ بنا، ونسأل الله أن يجعلكِ ممن صدق الله فصدقه، وأن يسقيكِ من نور البصيرة ما يُطهر قلبك، ويثبت خطاك، ويجعل لكِ بكل دمعة صدق، وصرخة ضمير، رفعةً في الدنيا والآخرة، وبعد...
فيا مَن تغلَّفت روحها بحبِّ المظلومين ونصرتهم، فاستوحشت مجلسًا لا يحمل همَّهم، اعلمي -رحمكِ الله- أن الغربة في سبيل الله شرف، والوعي في زمن التخدير بطولة، والصدق في المشاعر نعمة من أعظم النعم.
إن قضية فلسطين وغزة ليست مجرد قضية سياسية أو إنسانية، بل هي قضية إيمانية بامتياز. إنها جزء من صراع الحق والباطل، صراع بين من يؤمنون بالله ورسالاته، وبين من يظلمون ويستكبرون في الأرض. إن ما تشعرين به من ألم وحزن وغربة بين من لا يشاركونكِ هذا الشعور هو أمر طبيعي، بل هو دليل على سلامة قلبكِ وحساسيته تجاه الظلم والمعاناة. تذكري دائمًا قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139].
حكم المقاطعة في ظل هذه الظروف:
المقاطعة الاقتصادية للكيان الصهيوني وشركاته الداعمة، ليست مجرد رأي عاطفي؛ بل هي سلوك تعبُّدي يُمكن أن يدخل في باب الجهاد بالمال، بل وفي باب «الولاء والبراء» الذي هو من أصول الإيمان.
وقد أصَّل العلماء هذا المعنى في فتاواهم، وعلى رأسهم هيئة كبار العلماء في فلسطين، وكثير من علماء الأمة المعتبرين، مؤكدين أن: المقاطعة الاقتصادية وسيلة مشروعة من وسائل مقاومة العدو، وهي نوع من الجهاد المدني والواجب الأخلاقي، متى ثبت أن المنتج يدعم العدوان على المسلمين.
وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ﴾ [هود: 113]، فكيف إذا لم يكن الركون فقط، بل دعمٌ ماليّ يُقوّي شوكة الظالم، ويُسهم –وإن بطريقة غير مباشرة– في إيذاء إخواننا؟!
وقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ إِلَّا تَفۡعَلُوهُ تَكُن فِتۡنَةٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَفَسَادٞ كَبِيرٞ﴾ [الأنفال: 73]، أي إن لم يتناصر المؤمنون، ويقفوا صفًّا واحدًا، فسيتغلّب أهل الكفر والطغيان، ويكون فسادٌ كبير.
فمقاطعتكِ للمنتجات الداعمة، شهادة صدقٍ ووفاء، وصوتٌ يقول: "لن أكون شريكًا في ظلمكم"، بل هي تعبير إيماني عن انتمائك لصفّ المظلومين لا الظالمين، وهذا واجب ضمير وولاء، لا خيار رفاهية.
أختي الكريمة، إن المقاطعة في ظل هذه الظروف وسيلة مشروعة للتعبير عن الرفض للظلم والعدوان، وإظهار التضامن مع إخواننا المستضعفين. إنها تدخل في باب النصرة المأمورين بها شرعًا، قال ﷺ: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» [صحيح البخاري]. ونصرتهم في هذا السياق يكون بالدعاء لهم، وبدعمهم بكل وسيلة ممكنة، والمقاطعة تدخل في هذا الإطار.
كيف تتعاملين مع سخرية الأصحاب:
أشعر بكل وجع كلماتكِ يا أختنا، وأكاد ألمس تلك الجمرة في حلقك، والسكين في صدرك. نعم، مؤلم أن يكون الألم في قلبك وحدك، وأن تَضحك العيون التي كان يُفترض بها أن تدمع.
لكن تذكّري قول النبي ﷺ: "فطوبى للغرباء" [رواه مسلم]. فلا تحزني إذا شعرتِ بالغربة، بل أبشري، فقد وُصفتِ بها، ووُعدتِ بـ"الطُّوبى" من نبيِّنا الكريم ﷺ، وهي السعادة التي لا يعكر صفوها شيء.
وأنصحك بالتالي في هذه النقطة:
- واجهي سخريتهم برفقٍ واعتزاز: "أنا لا أزعم أني أغيّر العالم؛ لكني أغيّر نفسي! ولا أقول إنني سأنقذ فلسطين؛ لكني أرفض أن أكون عونًا على خذلانها." ولو ضحكوا.. فابتسمي، واذكري قول الله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129].
- ادعي لهم بالهداية، وتذكري أن القلوب بين يدي الله، فادعي لهم بصدق أن يفتح الله بصائرهم، وأن يلين قلوبهم.
- حاولي أن تتحدثي معهم بهدوء وعقلانية، اشرحي لهم وجهة نظركِ، وبينّي لهم أهمية المقاطعة، وأنها ليست مجرد "سندويتش" أو "قميص"، بل هي موقف مبدئي.
- كوني قدوة حسنة لهم في التزامكِ ومبادئكِ، فربما يؤثر فيهم سلوككِ أكثر من كلامكِ.
- لا تيأسي من محاولاتكِ، فربما يستغرق الأمر وقتًا، ولكن الله قد يفتح قلوبهم في يوم من الأيام.
- تذكري أن رضا الله أهم من رضا الناس، فلا تتنازلي عن مبادئكِ من أجل إرضائهم، قال ﷺ: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» [رواه الترمذي].
- حاولي أن تقضي وقتًا أطول مع من يشاركونكِ اهتماماتكِ ومبادئكِ، فهذا سيخفف عنكِ الشعور بالغربة، يقول الله عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].
- تذكّري أن الله لا يُضيّع دمعة حُرقة، ولا صرخة ضمير، ولا وقفة صدق، ولو لم يقف معك أحد.
هل للمقاطعة أثر حقيقي؟
المقاطعة سلاحٌ مؤثّر، تُجمع الدراسات الاقتصادية والسياسية على أثره. فبعض الشركات الداعمة للكيان الصهيوني خسرت مليارات الدولارات نتيجة المقاطعة الشعبية في الوطن العربي والإسلامي، وهذا موثّق ومُعلن.
لكن؛ حتى لو لم يظهر الأثر المالي سريعًا، فإن الأثر التربوي والإيماني والنفسي بالغٌ جدًّا:
1- هي تربية على الإخلاص: أن أقول "لا" رغم الضغط، وأن أضبط استهلاكي بما يرضي الله.
2- هي رسالة للمظلوم: لستَ وحدك. نحن معك بقلوبنا، ودعائنا، وأموالنا، حتى لو كانت قليلة.
3- هي وصمة على جبين الظالم: أن يعلم أن العالم لا يُطبِّع معه، ولا يُبيح له ظلمه.
وما أعظم قول النبي ﷺ: "من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [رواه مسلم]، فهل المقاطعة إلا من أبلغ أشكال الإنكار بالقلب، وأقواها أثرًا؟!
كذلك فإن المقاطعة تعبِّر عن قوة المستهلك، وتجعله يشعر بأنه ليس مجرد رقم في معادلة الربح والخسارة، بل هو صاحب قرار ومؤثر في السوق. إنها رسالة قوية إلى الشركات الداعمة للظلم بأننا لن نكون جزءًا من جريمتهم.
فلا تستصغري أثر المقاطعة، فكل فرد في المجتمع له دور يلعبه، وكل سلعة نرفض شراءها هي خطوة في طريق النصر. تذكري قول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: 143].
كيف نوازن بين الالتزام والصداقات؟
الالتزام بالحق لا يعني اعتزال الناس، ولا التكبر عليهم، بل نُحبهم ونصبر، ونُبلّغ بالحكمة والموعظة الحسنة، ونتمسّك بما نعتقد أنه يُرضي الله دون أن نكسر قلوبهم أو نخاصمهم على كل مخالفة.
لكن حين تُصبح الصحبة معول هدمٍ لإيمانك، ومصدر تكرار للسخرية والتهكم، فلا بأس من أن تُعيدي ترتيب المسافات، دون قطيعة.
خُذي منهم الطيّب، وتجنّبي ما يوجعكِ ويطفئ نور قلبك، وارفعي دعاءكِ لله أن يبدلكِ خيرًا منهم أو يهدي قلوبهم.
وتذكّري دائمًا قول النبي ﷺ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" [رواه مسلم]، فكوني من هذه الطائفة، وإن كنتِ وحدك!
وأنصحك بالتالي في هذا الإطار:
- حاولي أن تركزي في علاقاتكِ مع أصدقائكِ على الأشياء المشتركة بينكم، مثل الهوايات أو الاهتمامات الأخرى، وتجنبي الخوض في المواضيع الخلافية إلا عند الضرورة.
- احترمي آراءهم حتى لو اختلفتِ معها، وتوقعي منهم أن يحترموا آراءكِ أيضًا.
- لا تجبريهم على تبني وجهة نظركِ، ولكن حاولي إقناعهم بالحسنى، واتركي لهم حرية الاختيار.
- كوني متسامحة معهم، وتذكري أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وأن الصداقة أهم من الخلافات.
- ادعي لهم بالهداية والتوفيق، واعلمي أن الله قادر على أن يجمع بين قلوبكم على الحق.
- حاولي بناء صداقات جديدة مع أشخاص يشاركونكِ القيم والمبادئ نفسها، فهذا سيساعدكِ على الشعور بالدعم والتأييد.
وختامًا أيتها الصادقة، نعم، لن تنقذي فلسطين بسندويتش، ولن تُهزَم إسرائيل بقميص، لكن ضميركِ الحيّ أعظم من كل ذلك، ووقفتكِ شهادة أمام الله أنك لم تُساومي، ولم تُداهني، ولم تبيعي الحق بثمن.
كوني فخورة أنك اخترتِ الحياة بـ"قلبٍ حيّ"، في زمنٍ امتلأ بالتبلّد والغفلة. وإن قلّ من يفهمكِ؛ فالله يرى، والملائكة تكتب، واليوم الآخر يقترب.. ﴿وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا﴾ [الفتح: 28].
واللهِ.. لو لم يكن لكِ من أثر المقاطعة إلا هذه الحُرقة في قلبك، لكانت في ميزان الله أعظم من جبل.
فامضي في طريقك، ثابتة، متزنة، مؤمنة. وكلما شعرتِ بالوحدة، تذكّرتِ أن أهل غزة أيضًا وحدهم؛ لكنهم مع الله، ومع دعوات الطيبين أمثالكِ، فلا يُخذَلون، ولا أنتِ.
ثبتكِ الله، ورزقكِ صدق النيّة، وسِعة الصدر، ورفقةً صالحة تُعينكِ على الحق.
ونحن معكِ.. قلبًا وقلمًا ودعاءً.