الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : مفاهيم
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
27 - رقم الاستشارة : 2974
15/10/2025
هل هناك سنن إلهية تحكم مسار التاريخ أم أن التاريخ غير محكوم بقواعد وسنن.. فما هو مفهوم السنن الإلهية في الرؤية الإسلامية؟
أخي الكريم، مع نزول القرآن الكريم وحديثه عن السنن التي تُسير حركة الكون والتاريخ الإنساني، بدأ العقل في الإفلات من آثار الجاهلية وأساطيرها وخرافاتها في فهم التاريخ وإدراك القواعد والسنن التي تحكم الكون والتاريخ ويسير وفق مقتضاها.
لم يطرح القرآن المفهوم السنني كنوع من المعرفة العقلية أو التنظيرية، ولكن جاء الطرح كضرورة للاستفادة من تجارب الأمم السابقة، التي عاندت نواميس الكون وسننه فاستحقت العقاب والهزائم والتراجع، والأمم التي راعت السنن في حركتها فارتقت وانتصرت وتقدمت.
أنواع السنن
يستند التصور الإسلامي للسنن على مجموعة أسس، منها: الإيمان بالغيب، والإيمان بأن السنن ما هي إلا قوانين جاءت في إطار التسخير الإلهي الكون لخدمة الإنسان، وأن هذه السنن تسير وفقًا لقانون السببية.
ونشير هنا إلى ما تحدث عنه الشيخ محمد عبده من الربط بين تجاوز السنن الإلهية وتحقيق الفسق والفساد في الكون، واستند إلى فهمه لقوله تعالى ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (سورة البقرة: 25) فيقول: "وأيُّ إفسادٍ أكبر من إفساد مَنْ أهمل هدايةَ العقل وهدايةَ الدِّين، وقطَع الصِّلة بين المقدِّمات والنتائج، وبين المطالب والأدلة والبراهين؟ مَنْ كان هذا شأنُه فهو فاسِدٌ في نفسِه ووجوده في الأرض مُفسِدٌ لأهلها"، فقد سعى الشيخ لربط مفهوم السنن الإلهية برؤيته التجديدية لاستنهاض الأمة من حالة الجمود الذي كانت تعيش فيه في تلك الفترة.
هناك عدة سنن في يمكن الوقوف عليها في الرؤية الإسلامية، وجميعها تتكامل وتتساند لتحقيق نفع الإنسان وخلافته في الأرض بالإصلاح والعمران والتزكية، منها:
* السنن الكونية: وتعني القوانين التي يُسيّر وفقها الكون، والتي يستفيد منها الإنسان، فيسخرها لخدمته؛ وتتمثل أهميتها في تحقيق خلافة الإنسان في الأرض.
* السنن التاريخية: وهي القوانين والقواعد التي تحكم سير الأمم في بقائها أو زوالها، وفي صعودها أو انحطاطها؛ فالتاريخ الإنساني لا يسير فوضويًّا، ولكن يسير وفق قواعد يمكن للعقل البشري أن يدركها.
* السنن الإنسانية: وهي السنن المرتبطة بالطبيعة البشرية، والتي يكفل اتباعها صلاح الإنسان في بدنه ونفسه وعقله.
أهمية السنن
ولعل من أهم القوانين هو "قانون السببية"، إذ هناك علاقة بين السبب والنتيجة، وفي الرؤية الإيمانية فإن هذا القانون يخضع لمشيئة الخالق سبحانه وتعالى، فاكتشاف العقل الإنساني للقانون لا يعني أن الإنسان هو الذي أنشأه وأوجده، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون ترابط بين الأسباب ومسبباتها، وفي هذا الربط تحطيمٌ للأفكار الخرافية والاتكالية، أو كما فهمه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما رأى أناسًا لا يعملون اعتمادًا على فهم مغلوط لمفهوم الرزق، فقال لهم: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني؛ فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة".
يقود اتباع السنن والسير وفق مقتضاها إلى سعادة الإنسان؛ لأن نواميس الكون غلابة قاهرة لا تعرف المجاملة أو التوقف، ومن أهم ما يتحصل عليه العقل الإنساني من اتباع السنن هو أن العقل الإنسان يصبح أكثر تفاعلا مع قوانين الكون والاجتماع الإنساني، ومع هذا الإدراك الواعي تتحطم الأساطير والخرافات والتنجيم والتقاليد البالية.
وعلى مستوى الرؤية الكلية الوجودية، فإن مفهوم السنن يعمق أصل التوحيد في عقل المسلم ووجدانه؛ إذ يدرك أن الكون لم يخلق عبثًا، وأن له خالقًا قديرًا، لم يترك الكون بلا ضوابط ولا قوانين تُسيّر حركته، هذا الإدراك يجعل حركة المسلم دومًا مرتبطة بالسماء، ويرى ما يدور حوله من هزائم وانتصارات وصعود أمم وهبوط أخرى ضمن رؤية كلية تمنحه القدرة على الفهم والتفسير والتفاعل الإيجابي مع تلك السنن.
أما تطبيق السنن في حياة الناس ومعاشهم، فيدفعهم إلى العمل والأخذ بالأسباب، بل وإحسان العمل وعدم الاستسلام أمام العقبات لإدراك المسلم أن من سنن الله تعالى في خلقه أن جعل لكل شيء ضدًا، فإذا واجه عقبة فإن إيمانه بوجود السنن سيدفعه دفعًا إلى البحث عن ذلك الضد للتغلب على تلك العقبة.
ولــــــــــكن لابد من إدراك أن السنن ليست قوانين جامدة تعمل بمفردها، ولكنها تعمل وفق مشيئة إلهية، كما أنها تعمل وفق نسق كامل من الشروط إذا تحققت فإن السنن تمضي في طريقها، وربما هذا ما التفت إليه الإمام ابن تيمية من أن الكفر إذا اقترن بنوع من العدالة فقد يتأخر إهلاك تلك الأمة، ولذا قال: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة".
روابط ذات صلة: