الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : مفاهيم
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
129 - رقم الاستشارة : 2505
25/08/2025
يتردد على كل لسان كلمة الثقافة في كل مجال وكل منتدي ومؤتمر حتى كلام الرجل العادي.. فما هي الثقافة؟
أخي الكريم، ربما سؤالكم يحتاج إلى أكثر من إجابة سريعة، ولكن ما نستطيع أن نجمله عن الثقافة، أنها كمفهوم بات يغزو العالم كله، ويسيطر على الخطاب الإعلامي والسياسي والاجتماعي، فالكلمة تعد من أكثر الكلمات تداولا على المستوى العام عالميًّا.
ولكـــــــن أخي الكريم، رغم كثرة هذا التداول الكثيف لكلمة الثقافة، فإنها من أكثر الكلمات والمفاهيم غموضًا وتناقضًا، فقد تشير إلى الشيء ونقيضه في آن واحد، كما أن كثرة التداول صرف الكثيرين عن البحث عن معناها وحدودها المعرفية.
ونستطيع أن نقول إن هناك تعريفات تصرف الثقافة إلى بعدها النخبوي، فتقصد بالثقافة النخبة المتعلمة الحائزة على قسط وافر من المعرفة، وهناك من يصرف التعريف إلى كونه نمطًا للحياة، أي كيفية معيشة الناس، باعتبارها التعبير الواضح عن ثقافتهم، وبناء على هذه الرؤية يدخل في تعريف الثقافة: العادات والتقاليد والطعام والأزياء والعمارة والفنون، وهناك من يرى الثقافة قوة ضابطة للسلوك تحفظ الانسجام الاجتماعي، وهناك من رأى في الثقافة أنها تمثل الرموز والمعاني التي يسقطها الأفراد على فعلهم وسياقاتهم الاجتماعية.
والحقيقة أن مفهوم الثقافة لم يظهر من العدم، وإنما ارتبط بسياقات للنشأة ومسار تاريخي طرأت عليه تطور لتداول المفهوم فأكسبه الكثير من معانيه.
الجذور اللغوية الأولى للثقافة ترجع إلى اللغة اللاتينية القديمة، وكانت تعني الزراعة أو التربية، وهو معنى لا يزال قائمًا في استعمالات الثقافة حتى الآن، حتى في اللغة العربية فإن كلمة ثقافة مشتقة من "ثقف العود" أي هذبه وأزال ما فيه من بروز، وأعده ليكون سهمًا أو رمحًا، وهذا المعني العربي يشير إلى دور الفعل الخارجي في تحسين الشيء وتهذيبه وتسهيل الانتفاع منه لأغراض أفضل وأحسن.
ومع العودة لأصل الثقافة في التداول في اللغة اللاتينية القديمة، نجد أن المفهوم يكاد ينحصر في أعمال الزراعة والبستنة وتربية الماشية والعناية بها، واستمر انصراف معاني الثقافة إلى النشاط الزراعي قرون طويلة حتى جاء عصر التنوير الأوروبي مع نهاية القرن السابع عشر الميلادي، حيث اهتم هذا العصر بالعقل والمعرفة، فأخذ مدلول الثقافة ينتقل إلى حقول المعرفة.
ومع القرن الثامن عشر الميلادي دخلت كلمة الثقافة إلى التداول الأكاديمي في فرنسا، وكان للفرنسيين دور واضح في تطوير المفهوم، لكن ما تميز به حقل التداول الفرنسي، أن كلمة ثقافة سبقت الكثير من العلوم والفنون، فظهرت كلمات مثل "ثقافة الفنون" و"ثقافة الآداب"، وكانت دلالاتها ترمز إلى تكوين العقل وترقيته من خلال المعرفة.
ومن أقدم التعريفات التي ظهر للثقافة كان سنة (1871م) في كتاب "الثقافة البدائية" لمؤلفه "إدورد تايلور" فعرف الثقافة بأنها "ذلك الكل المركب المشتمل على المعارف، والمعتقدات، والفن، والقانون، والأخلاق، والتقاليد، وكل القابليات، والعادات الأخرى، التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في مجتمع".
والواقع أن الثقافة ذات تشعب وتنوع كبير في التعريفات، لكن هذا يجب ألا يلتهم وقتنا في التفكير في تحديد تعريف جامع شامل لها، لكن البعض أجمل تعريفها دامجًا بين أبعادها المعرفية والسلوكية، فعرفها بأنها "نظام مركب من أبعاد معرفية، ومعنوية، وأبعاد سلوكية، فالأبعاد المعرفية، والمعنوية تتمثل في الأفكار التي تشكّل عند الفاعل الاجتماعي تصورّه للعالم، والأحداث، والمعاني التي بها يفسّر العالم، وأما الأبعاد السلوكية فتتمثل في العادات، والأعراف، والتقاليد، والعلاقات الاجتماعية، التي قد تتشكل وفق قانون ديني، أو عرفي، أو مدني".