Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 160
  • رقم الاستشارة : 930
09/02/2025

السلام عليكم، أنا رب أسرة تجاوزت الخمسين وعندي زوجة و3 بنات اثنتان منهن في سن الزواج وكي أغطي نفقات بيتي وأسرتي وتجهيز بناتي فإني أعمل في وظيفتين بدوامين حوالي 16 ساعة في اليوم غير الوقت المنفق في المواصلات ذهابا وإيابا وبين العملين، ولا يخفى عليكم الجهد والمشقة في ذلك حيث لا يتبقى لي من ساعات اليوم إلا سويعات قليلة للنوم وتناول طعام على وجه السرعة. ما يؤرقني هو أني والحمد لله أحافظ على الصلوات الخمس في مواعيدها وأؤدي الفرائض لكن مع الأسف ليس لدي وقت ولا طاقة للقيام بالنوافل، من السنن الرواتب أو قيام الليل أو صيام التطوع، يعني أؤدي الفروض فقط، من صلاة وصيام، وهذا يؤلمني ويزعجني ويخيفني لأني أعلم أن النوافل تجبر نقص الفرائض، وأخشى أن ألقى ربي وعملي ناقص، ماذا أفعل وقد حكيت لكم ظروفي؟ كيف أستدرك تقصيري في نوافل العبادات؟ وهل يسامحني الله عز وجل؟ فإني لو تركت عملا من العملين فلن أستطيع توفير نفقات أسرتي. مع خالص الشكر لكم.

الإجابة 09/02/2025

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أخي الكريم، بارك الله فيك وفي جهدك وسعيك، وزادك من فضله، وأثابك على ما تبذله من تعب ومشقة في سبيل رعاية أسرتك وتوفير حياة كريمة لهم، وبعد...

 

فإن رسالتك تحمل بين سطورها قلبًا مؤمنًا، يخاف الله ويحرص على طاعته، رغم كل الصعوبات التي تواجهها. وهذه في حد ذاتها نعمة عظيمة، أن يكون قلبك معلقًا بالله، راغبًا في مزيد من القرب منه.

 

إنك تحمل همًّا يدل على صدق إيمانك، فكثيرون ينشغلون بالدنيا دون أن يشغلهم همّ الآخرة، أما أنت فبذلت جهدك، وأديت الفرائض، ورغم ذلك تشعر بالخوف والتقصير، وهذا حال الصالحين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا» [رواه البخاري].

 

ولكن اعلم -أخي الكريم- أن رحمة الله أوسع مما نتصور، وأنه –سبحانه- لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهو القائل: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]. فتعالَ بنا نناقش سؤالك، ونضع لك ما يطمئن قلبك ويعينك على طاعة الله، بما يتناسب مع ظروفك.

 

أولًا- منزلة سعيك في طلب الرزق عند الله:

 

إن سعيك لكسب الحلال وتوفير حياة كريمة لزوجتك وبناتك هو في ذاته عبادة عظيمة، بل هو من أعظم القربات إلى الله، خصوصًا إذا اقترن باستحضار نيات طيبة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فَمِ امْرَأَتِكَ» [متفق عليه].

 

ورأى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا ذا جلَد ونشاط، فقالوا: يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيلِ اللهِ، وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ، وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ» [رواه الطبراني].

 

فلا تحتقر عملك وجهدك، فإنك في عبادة عظيمة لا تقل عن قيام الليل وصيام النهار، ما دمت تستحضر نيتك الصالحة وتخلص عملك لله.

 

ثانيًا- هل يحاسبك الله على ترك النوافل؟

 

النوافل هي هدية عظيمة من الله؛ لكنها ليست مفروضة، بل رحمة وتوسعة على العباد. فإن كنت مشغولًا بعملك، والله يعلم تعبك ومشقتك، فلن يحاسبك على ذلك؛ لأن الله رحيم بعباده. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» [رواه البخاري]. وأنت في حالك هذه كحال المسافر أو المريض، فإن الله يعلم ضعفك وانشغالك، ولن يحرمك أجر ما كنت تتمنى فعله من النوافل.

 

لكن الجميل –أخي- أن هناك بدائل تستطيع بها إدراك بعض النوافل دون مشقة، وسأذكر لك بعضها:

 

ثالثًا- بدائل النوافل التي تناسب حالتك:

 

1- النية الصالحة تجعل أعمالك كلها عبادة:

 

اجعل نيتك في عملك وسعيك خالصة لله، فتصبح كل لحظة تعب، وكل خطوة، وكل لقمة تضعها في بيتك، كأنك في عبادة مستمرة، بل ربما تكون في منزلة من يقوم الليل، ما دمت مخلصًا لله.

 

2- الأذكار والتسبيح أثناء العمل والمواصلات:

 

يمكنك تعويض بعض النوافل بأذكار خفيفة، مثل:

 

- «سبحان الله وبحمده» (100 مرة)، تُغفر بها الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر.

 

- «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن.

 

- «لا حول ولا قوة إلا بالله»، كنز من كنوز الجنة.

 

- «أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه»، تُفتح لك أبواب الرزق ويُزال عنك الهم.

 

هذه الأذكار –وغيرها- لا تحتاج وقتًا، ويمكنك قولها أثناء العمل، وفي الطريق، أو قبل النوم.

 

3- صلاة الوتر قبل النوم:

 

إذا كنت لا تستطيع قيام الليل بسبب الإرهاق، فحافظ على ركعة واحدة من الوتر قبل النوم، فهي من أعظم النوافل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ وِتْرًا» [رواه البخاري].

 

4- السنن القبلية والبعدية بقدر المستطاع:

 

لو استطعت أن تصلي –على الأقل- ركعتين قبل الفجر، أو بعد المغرب، أو العشاء، فهو خير كثير، وإن لم تستطع، فلا حرج عليك.

 

5- الصدقة ولو بالقليل:

 

فالصدقة ثوابها كبير وعظيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» [رواه البخاري]، فلو تصدقت ولو بمبلغ يسير، أو حتى بتقديم معروف للناس، أو كلمة طيبة، فلك بذلك أجر عظيم.

 

6- الدعاء وطلب العون من الله:

 

لا تنسَ أن تدعو الله دائمًا أن يعينك على طاعته، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ» [رواه أبو داود].

 

رابعًا- هل يسامحك الله؟

 

نعم، وألف نعم؛ بل إن الله يفرح بعبده الذي يجتهد في طاعته، ولو لم يستطع فعل كل شيء. قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ﴾ [الشورى: 25].

 

ويقول في الحديث القدسي: «أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» [رواه البخاري].

 

فأحسن الظن بالله، واجتهد بقدر استطاعتك، ولا تحمِّل نفسك فوق طاقتها، فإن الله أرحم بك من نفسك.

 

خامسًا- راجع أولوياتك وتخفف من مشاغل الدنيا:

 

أخيرًا -أخي الكريم- اسمح لي أن أهمس إليك: لا شك أن سعيك لتأمين حياة كريمة لأسرتك أمر محمود، ولكن تأمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتَاهُ» [رواه مسلم] فالسعادة ليست في كثرة المال، بل في القناعة والرضا، وأحيانًا قد يدفعنا الحرص الزائد إلى بذل جهد فوق الحاجة الحقيقية، ويضيع علينا حقوقًا أخرى.

 

لذلك، أنصحك بمراجعة نفقاتك، والتأكد من أن حاجاتك وحاجات أسرتك هي حاجات ضرورية فعلًا، وليست مجرد كماليات تستهلك عمرك وصحتك. فربما لو أعدت ترتيب أولوياتك، فستجد أنك تستطيع تقليل ساعات العمل، مما يمنحك وقتًا أكبر للراحة والعبادة والمكث مع أسرتك بعض الوقت.

 

وكذلك، حاول البحث عن فرص عمل توفر لك دخلًا أكبر مقابل جهد ووقت أقل. ربما وظيفة واحدة بدخل جيد، أو مشروع صغير يدرُّ عليك رزقًا دون استنزاف وقتك بالكامل. فالحياة ليست مجرد عمل مستمر بلا راحة، وقد أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- نصيحة سلمان لأبي الدرداء –رضي الله عنهما- إذ قال له: «إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» [رواه البخاري] فلا تهمل حق نفسك في الراحة والعبادة، كما لا تهمل حق أسرتك في الرزق.

 

وختامًا أخي الكريم، لا تدع الشيطان يحزنك ويوهمك أنك مقصر، فأنت على خير عظيم، وإيمانك الصادق يظهر في خوفك من التقصير. لكن تذكر دائمًا: الإسلام دين يسر، وليس مشقة، واعلم أن الله رحيم، لا يكلفك بما لا تطيق، وأن كل جهد تبذله –بنية صالحة خالصة- هو في ميزان حسناتك، ولو كان في الدنيا وليس في المحراب.

 

ثبتك الله، وأعانك، وبارك لك في وقتك ومالك، وفتح لك أبواب الخير والرضا، ورزقك القبول في الدنيا والآخرة، وأسأله –سبحانه- أن ييسر لك من الخير أكثر مما تتمنى.

الرابط المختصر :