الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
82 - رقم الاستشارة : 1556
09/04/2025
أنا موظف باركب الميكروباص يوميًا، وكل يوم بشوف واسـمع كمية كذب تخض، كأن الناس فقدت الإحساس بحرمة الكلمة. واحد يقول: "أنا في إسكندرية" وهو قاعد جنبي، وبنت تقول لأبوها: "أنا في الزحمة بقى لي ساعة" وهي لسه راكبة، وآخر يقول لمديره: "واقف قدام البنك" ولسه ما وصلهوش! الكذب بقى وسيلة حياة، والمشكلة إن معظمهم ناس بتصلي وبتصوم، وبتسمي قبل الأكل!
أنا بحاول أكون صادق، لكن وسط الموجة دي بحس إني غريب، وأوقات بضعف، أو أسكت، أو حتى أضحك من المفاجأة، وبعدين أندم.
نفسي أعرف: إزاي أعيش بصدق في وسط كذب الناس؟
هل أنا آثم لو سكت أو ضحكت؟
وليه الكذب بقى عادي كده في مجتمع "متدين بطبعه"؟
أرجوكم أرشدوني، لأني حاسس بمرارة وفتنة حقيقية.
مرحبًا بك أخانا الكريم، وحيَّاك الله وأحسن إليك، وأشكر لك سؤالك النابع من قلب حيٍّ لم تُطفئه رياح الفتن، ولم تُعْمِ قلبه غفلةُ التعود؛ بل ما زال يستشعر مرارة المعصية، ويئنُّ من تشوُّه القيم في زمان كثر فيه الزيف وقلَّ فيه الصدق.
أسأل الله أن يجعلك من الصادقين، وأن يثبتك على الحق، ويشرح صدرك، ويجعل لك من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، وبعد...
ففي زمنٍ يختلط فيه الحق بالباطل، ويغلب فيه الزيف على الصدق، يصبح التمسك بالحق جهادًا، والصبر على الأمانة عبادة، والثبات على المبادئ لونًا من ألوان الغُربة التي أخبر عنها الحبيب ﷺ، حين قال: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء» [رواه مسلم].
وما أجمل أن تكون من هؤلاء «الغرباء» الذين لم تنطمس بصيرتهم، ولم يسايروا الموج حين طغى؛ بل ثبتوا، وتشبثوا بنور الإيمان، وساروا على طريق الصدق ولو وحدهم.
دعنا نأخذ سؤالك الكريم فقرة فقرة، فنُجيبك بما يشفي صدرك، ويُسكِّن حيرتك، ويمدك بطاقة إيمانية تعينك على الثبات والاستمرار، بإذن الله.
كيف تعيش بصدق وسط كذب الناس؟
أخي الحبيب، إن الصدق ليس مجرد خُلق؛ بل هو عنوان الإيمان، وميزان الإسلام، وهو أول طريق النجاة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]. والنبي ﷺ أوصى بذلك في أوضح عبارة، فقال:
«عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا» [متفق عليه].
فالصدق يا أخي عبادة خفية، قد لا تُكافأ عليها في الدنيا؛ لكنك تُكرم بها عند الله، وتُحشر مع النبيين والصديقين، وتُرفع درجتك في دار الحق.
وعندما تعيش صادقًا في بيئة مليئة بالكذب، فأنت في الحقيقة تحمل أمانة عظيمة، وتُمارس صورة من صور الجهاد في سبيل الله. قال الله: ﴿وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52]، والصدق في القول والفعل أحد ميادين هذا الجهاد.
والله يرى، ويسمع، ويعلم أنك اخترت أن تكون نقيًّا، صافي القلب، صادق اللسان، ولو بين قوم لا يعقلون ذلك.
فلا تُزَعزِعْك كثرة الكذابين، ولا تَغْتَم لأنك وحدك، فإن الله معك، وملائكته تُثني على صدقك، والله سبحانه يقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ [فصلت: 46].
هل تأثم لو سكتَّ أو ضحكتَ؟
إذا كان سكوتك ناتجًا عن عجزٍ أو خوفٍ أو حياءٍ، ولا يتضمن رضًا أو إقرارًا بالكذب، فلا إثم عليك؛ لكنك إذا استطعت أن تُنكر أو تُلفت النظر بلطف دون أذى، فلك الأجر بإذن الله. فالنبي ﷺ قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [رواه مسلم].
والكذب منكر؛ لا شك في ذلك؛ لكن إنكار المنكر له شروط، وأنت أدرى بالظروف التي تمر بها. فإن خشيت فتنة أو أذى أو جدالًا عقيمًا، فالصمت مع الاستنكار القلبي يُجزئك.
أما الضحك فقد يُؤخذ على أنه مشاركة أو رضا، وقد يُعد تساهلًا في موطن يُفترض فيه التهيُّب والخشية. فإن ضحكت عفويًّا من المفاجأة أو من غرابة الموقف، ثم استرجعت نفسك وندمت كما قلت، فنسأل الله ألا يؤاخذك؛ خصوصًا إذا كان القلب منكرًا والنية صالحة.
لكن عليك دائمًا أن تحذر من أن تتبلَّد مشاعرك بمرور الوقت، أو أن يُصبح قلبك يألف الكذب فيُسقطه من دائرة الحرام.
لماذا أصبح الكذب عاديًّا في مجتمع «متدين بطبعه»؟
إن أخطر ما يُصيب المجتمعات أن تفصل بين ظاهر التدين وحقيقة الإيمان، فليس كل من صلى وصام وتلفّظ بالبسملة عند الطعام، صار بالضرورة تقيًّا نقيًّا.
قال النبي ﷺ: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يُلقي لها بالًا، يهوي بها في النار سبعين خريفًا» [رواه الترمذي]. وقد أخبرنا ﷺ أن الكذب لا يجتمع مع الإيمان الكامل، فقال: «يُطبع المؤمن على الخلال كلها؛ إلا الخيانة والكذب» [رواه أحمد].
والكارثة حين يُصبح الكذب «عادة يومية» وتُغلف بالمبررات، حتى ألفته القلوب، واستمرأته الألسنة، وفُقد الخوف من الله.
وهنا تبرز خطورة التديُّن المظهري الذي لا يترجم إلى سلوك وأمانة وورع.
إن التدين الحقيقي هو الذي يمنعك أن تكذب، ولو على سبيل المزاح، والصدق يُربيه الإيمان، ويُذكيه حضور الله في القلب، واستشعار رقابته في كل لحظة.
وختامًا أخي الحبيب، إن إحساسك بالغربة والمرارة دليل حياة قلبك، وهو في ذاته علامة خير؛ لأن القلب إذا ما تألم من المعصية، فذلك لأنه ما زال حيًّا لم يمت.
ثق بأن الله مطلع على صدق نيتك، وسيجزيك به خيرًا عظيمًا، فقط اثبُت، ولا تدع الموج يبتلعك.
ابحث عن رفقة صادقة، وكن لنفسك نورًا إن لم تجد نورًا حولك، واطمئن، فإن الله وعد الصادقين بالنجاة، فقال: ﴿هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ [المائدة: 119].
ثبَّتك الله، ونوَّر قلبك، وجعل من أمثالك طليعة النقاء في زمن التلون.