الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
54 - رقم الاستشارة : 1814
01/05/2025
هل اهتمت الحضارة الإسلامية بالطفل وكفلت له حقوقًا معتبرة وقامت برعايتها، حيث نلاحظ في الفترة الأخيرة الكثير من المآسي التي يتعرض الأطفال شرقًا وغربًا؟
اهتم الإسلام بالطفولة اهتمامًا كبيرًا في نصوصه التأسيسية من القرآن والسنة النبوية الشريفة، وأخذت الطفولة حقها ونصيبها في كتب الفقه في مذاهبه المختلفة.
فالإسلام حرّم قتل الأبناء خشية الفقر، وحرّم وأد البنات، وحفظ حقوق اليتامى وأموالهم، وحفظ حقوق الطفل في الميراث، واهتمت النصوص بتربية الأبناء وتعليمهم الآداب والأخلاق، وكانت في كل ذلك تتمثل روح الرفق، وتنظر للغد القريب بأن هؤلاء الأطفال سيصيرون هم رجال ونساء المستقبل، وأن ما يُغرس اليوم سيثمر غدًا.
أما في الجانب الحضاري، وهو التجلي الثقافي والاجتماعي للإسلام في التجربة والخبرة الإسلامية، فنجد أن الحضارة الإسلامية اهتمت بالطفل اهتمامًا كبيرًا على مستوى التربية النفسية والسلوكية والصحية والتعليمية والأخلاقية.
ونشير هنا إلى الطبيب الفيلسوف ابن سينا (427هـ=1037م) في كتابيه "القانون" و"السياسة"، حيث اهتم بالحديث عن الأطفال ورعايتهم الصحية والنفسية والتعليمية والتربوية.
في كتابه "القانون في الطب" تحدث عن الأمراض التي تصيب الأطفال، كما تناول قواعد في التربية للأطفال تراعي طبيعتهم النفسية والعقلية والجسدية، فنراه يؤكد ضرورة مراعاة نفسية الطفل بحيث لا يصيبه غضب شديد أو خوف شديد أو غم أو سهر، ويبين أن في ذلك منفعتين:
* أولاهما: في نفسه بأن ينشأ منذ الطفولة حسن الأخلاق، ويصير ذلك له ملكة لازمة.
* والثانية خاصة بالبدن: فكما أن الأخلاق الرديئة تابعة لأنواع سوء المزاج، فكذلك إذا انحرفت عن العادة استتبعت سوء المزاج المناسب لها؛ ففي تعديل الأخلاق حفظ الصحة للنفس والبدن جميعًا.
ويعتني "ابن سينا" بنظافة الطفل، ويحدد أوقات استحمام الطفل ولعبه فيقول: "وإذا انتبه الصبي من نومه فالأحرى أن يستحم، ثم يخلى بينه وبين اللعب ساعة، ثم يُطعم شيئًا يسيرًا، ثم يُطلق له اللعب الأطول، ثم يستحم ثم يغذى، ويجتنبون ما أمكن شرب الماء على الطعام".
ويحترم "ابن سينا" ميول الطفل ويجعلها أساسًا في التربية، حتى لا يرهق الأطفال بأعمال يصعب عليهم أداؤها لأنها لا تجري مع رغباتهم.
أما تأديب الطفل فنصح أن يكون الأسلوب فيه مزج بين الشدة واللين، وأن يسبق النصح عملية العقاب، وأن يكون العقاب غير مضر للطفل نفسيًّا ولا بدنيًّا، وأن يتوقف العقاب مع توقف السلوك الخاطئ أو التقصير من الطفل، وأكد ضرورة "أن يجنب الصبي معايب الأخلاق بالترهيب والترغيب، والإيناس والإيحاش، الإعراض والإقبال، وبالحمد مرة وبالتوبيخ مرة أخرى، ما كان كافياً".
أما العقوبة فيؤكد أنه إذا احتاج المربي "للاستعانة باليد لم يحجم عنها، وليكن أول الضرب قليلاً موجعاً، بعد الإرهاب وبعد إعداد الشفعاء"، ومن هنا لا يجعل ابن سينا القسوة والضرب أول وسيلة للتأديب، ولا يتم اللجوء للضرب إلا إذا فشلت الوسائل الأخرى.
ومن عناية الحضارة الإسلامية بتقييد العقاب على الطفل، وعدم إطلاق غضب الوالد أو المربي ليعاقب الطفل بلا ضابط ولا رادع، حدد العلماء عدد الضربات التي توقع على الطفل بثلاث، كما عينوا المواضع التي يحدث فيها الضرب حتى لا يتعرض الطفل للأذى.
أما في كتاب "السياسة" فتحدث عن قضايا تربوية وتعليمية مهمة فقال: "ينبغي البدء بتعلم القرآن بمجرد تهيؤ الطفل للتلقين جسميًّا وعقليًّا، وفي الوقت نفسه يتعلم حروف الهجاء ويلقن معالم الدين، ثم يروي الصبي الشعر مبتدأ بالرجز ثم بالقصيدة، لأن رواية الرجز وحفظه أيسر إذ أن بيوته أصغر ووزنه أخف، على أن يُختار من الشعر ما قيل في فضل الأدب ومدح العلم وذم الجهل وما حث على بر الوالدين واصطناع المعروف وإكرام الضيف. فإذا فرغ الصبي من حفظ القرآن وألمّ بأصول اللغة يُنظر عند ذلك في توجيهه إلى ما يلاءم طبيعته واستعداده".
أما الإمام "أبو حامد الغزالي" (ت: 450هـ=1111م) فله الكثير من الآراء والمساهمات في هذا الجانب، وهو يتكلم عن الطفولة بعطف ورقة لا حد لهما، ويصف الطفل بأنه "أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة"، وأن على ولي أمر الطفل أن يقوم بإرشاده بأمانة وإخلاص، وأن على المربي مراعاة شعور الطفل فيقول: "إن الطفل المستحي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه".
أما في العقاب، فيؤكد أنه ينبغي على المربي "ألا يؤخذ الطفل بأول هفوة، بل يتغافل عنه ولا يهتك سره، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه".