الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
7011 - رقم الاستشارة : 1395
20/03/2025
كيف يمكن تنمية ملكة التفكير النقدي؟
التفكير النقدي، وإن كان له جانب وهبي من الله تعالى لبعض الناس، فإن فيه أيضًا جانبًا مهاريًّا يتحقق بالتدريب والاكتساب والتعلم؛ فهذا النوع من التفكير قابل للاكتساب من خلال التحلي ببعض السمات واكتسابها، وكذلك من خلال ترك بعض الخصال التي تعيق تلك الملكة والمهارة.
والتفكير النقدي هو كنز عقلي، يمنح العقل استقلالية، وقدرة على البحث عن مصالحه وما ينفعه والابتعاد عما يضره ويحقق له الخسارة، ويضع حجابًا بينه وبين التبعية، التي لا تليق بكرامة الحرية والمسؤولية التي منحها الله تعالى للإنسان.
ولكن قبل أن نجيب على هذه الاستشارة المهمة، التي يحتاج إليها المسلم خاصة في مرحلة الشباب، من الضرورة النظر إلى قصة خليل الله إبراهيم عليه السلام، قبل تكليفه بالنبوة؛ ففي رحلته في البحث عن خالقه سبحانه وتعالى، مارس تفكيرًا نقديًّا وشكًّا منهجيًّا وجوديًّا في "الآلهة" التي يعبدها الناس خاصة في السماء من كوكب وقمر وشمس، ورأى أنها لا تصلح أن تكون آلهة، لحجمها أو لأفولها، ووضع صفات لهذا الإلهة أهمها أنه يجب ألا يغيب؛ لأن الغياب فقد والإله يجب ألا يكون مفقودًا أو غائبًا.
يقول الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار: "لم يزل إبراهيم عليه السلام لما رأى ملكوت السماوات يصل إلى نور بعد نور، ويتخيل إليه في أول ما كان يلقاه أنه قد وصل، ثم كان يكشف له أن وراءه أمرًا فيترقى إليه، ويقول قد وصلت فيكشف له ما وراءه، حتى وصل إلى الحجاب الأقرب الذي لا وصول إلا بعده، فقال (هذا أكبر) فلما ظهر له أنه مع عِظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة الكمال {قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ}".
وإذا كان التفكير التحليلي، هو أحد جوانب التفكير النقدي، لتركيزه على الحقائق والبيانات والعلاقة بينها، فإن التفكير النقدي يتميز بأنه يُدخل أشياء أخرى في مجاله منها: المشاعر والتجارب والخبرات والتخيل والتأمل.
أفادت دراسة غربية أن 81% من أصحاب العمل يرون أن التفكير النقدي له أهمية كبيرة عند تقييمهم للمرشحين للوظائف؛ لذلك يُصنّف ضمن أهم الكفاءات التي تأخذها الشركات الكبرى في الاعتبار عند توظيف الخريجين الجدد، حتى قبل مهارات التواصل، وتُظهر العديد من دراسات ما بعد التوظيف، أن مهارات التفكير النقدي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتحسين الأداء الوظيفي.
الطريقة السقراطية لتعزيز التفكير النقدي: هذه الطريقة تشجع الأفراد على مناقشة الأشياء التي يؤمنون بها، والغوص بعيدًا وراء أدلتها وأسانيدها، فهي تنمي مهارة الاستقصاء، وتنمي نزعة الشك، الذي لا يتحول إلى قناعة أو يقين إلا من خلال أدلة واضحة، ومن ناحية ثالثة تُعلم النفس والعقل التواضع، وعدم النظر إلى أفكاره وآرائه بإعجاب وتعالٍ، وكذلك عدم احتقار آراء الآخرين أو الاستخفاف بالمعلومات أو الأدلة قبل فحصها والتأكيد من صدقيتها.
مساران لتنمية التفكير النقدي
يمكن تنمية هذه المهارة، من خلال مسارين كبيرين:
الأول: اجتناب ما يسمى "قتلة التفكير النقدي"
والثاني: اكتساب مهارة التفكير النقدي.
* قتلة التفكير النقدي:
يشير بعض كتاب التنمية البشرية إلى أن هناك مجموعة من المثبطات للتفكير النقدي، أطلقوا عليه "قتلة التفكير النقدي"، منها:
- الاعتمادية: وتعني الإفراط في الاعتماد على مصادر ثابتة للحصول على المعلومات، والإيمان بعصمة أفكار بعينها، فلا يمكن أن يزدهر التفكير النقدي إلا في بيئة تدعم طرح الأسئلة.
- الحدية: وتعني أن الشخص الذي يفكر بطريقة حدية أي يمسك بطرف واحد، ولا يرى في الأفكار والأشخاص إلا لونين هما الأبيض والأسود، وهذه الطريقة تقود إلى التعميم وإطلاق الأحكام والانغلاق الفكري.
- الأحكام المسبقة: وضع حكم مسبق على شيء أو شخص ما، يعني أنك أغلقت باب التفكير، ويعد عائقًا أمام النقد، وكما يقول الكاتب الإسباني "كارلوسزافون": "الأحكام المسبقة هي آخر من يتعرض للفناء في هذا العالم".
- التسرع في النظر للأشياء، ومن ثم إصدار الأحكام، يصيب التفكير النقدي بالضمور.
- عدم إدارك التغير: عدم إدارك التغير، ويتجلى في استدعاء الأحكام السابقة وإغفال التغيرات الجديدة، وربما كان ذلك أحد أسباب الهزائم التي لحقت بقادة عسكريين كبار في التاريخ، أو الإخفاقات التي حاقت بشركات عملاقة، والتي لم تدرك التغير في السوق، مثل إحفاق شركة "نوكيا" للهاتف النقال.
- الإفراط في الاعتماد على التكنولوجيا: هذا الإفراط، يصيب العقل بالكسل، والاعتقاد أنه لا يستطيع أن يمارس دوره بدون التكنولوجيا، وهو مؤشر على العجز.
** وسائل زيادة مهارات التفكير النقدي:
- القدرة على التساؤل: إذا غاب التساؤل، فقد اختفت القدرة على التفكير النقدي؛ فالتساؤل يغري بالشك، ويؤكد عدم الاقتناع الكامل، وكلما انصب التساؤل على الجوهر، وعلى طرح الأسئلة المناسبة والضرورية، كان العقل النقدي فعالاً؛ فالتساؤل يدفع العقل للنظر للقضية من زوايا مختلفة، وتقليب الأدلة من وجوهها المتعددة.
- القدرة على الاستماع الجيد: توفر مهارة الاستماع، والقراءة العميقة الواعية، يتيح النفاذ لجوهر الأشياء، وكما يقولون: "الحكمة تختبئ في الأماكن الأكثر هدوءا"، والاستماع الجيد وسيلة للوصول إليها.
- عدم الاستسلام للسائد: قدرة العقل على مقاومة السائد وعدم الاستسلام للمألوف، يدفعه لعدم قبول أي شيء دون أن يمتلك أدلة الإقناع، وكما يقول الفيلسوف "سبينوزا": "العقل النقدي ليس قادرًا على الوصول إلى الحقيقة دائمًا، ولكنه على الأقل قادر على كشف زيفها".