الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
375 - رقم الاستشارة : 744
20/01/2025
تظهر كل فترة كتب ومقالات وأبحاث تقول بأن الغرب سوف ينهار ويسقط بسبب أزماته الداخلية خاصة الأزمة الأخلاقية والسكانية في حين نرى العرب يتقدم ويزداد قوة وسيطرة في العالم كيف نفهم هذا التناقض؟
في البداية لم توجد حضارة مرت في التاريخ العالمي استعصت على الانهيار؛ فجميع الحضارات نمت وازدهرت ثم تراجعت وانهارت، كما أن جميع الحضارات في مجدها وعنفوانها لم ترَ أنها سترحل لتقبع في صفحات التاريخ، ولكن الذي حدث أنه جرت عليها سنن التاريخ وخضعت لقانونه الصارم، والحضارة الغربية ليست محصنة أمام تلك السنن.
والحقيقة أن مستقبل ومصير الحضارة الغربية سؤال طرحه أكثر من مفكر غربي خلال القرن الماضي، وهو في حقيقته جرس إنذار بمشكلات تهدد الحضارة الغربية، فكان طرح السؤال بصيغة الصدمة أمرًا ضروريًّا في نظر هؤلاء المفكرين، أما في المشرق فقد أخذ السؤال منحى آخر، وكأنه إعلان بنهاية الغرب، وكأن تلك الكتابات وثائق وتنبؤات لن تخطئ.
قلق المفكرين الغربيين حول مستقبل حضاراتهم سؤال حاضر منذ بداية القرن العشرين، وهو سؤال غايته تنبيه العقل الغربي بوجود أزمة حادة قائمة أو متوقعة يجب علاجها أو تلافي آثارها، ويمكن رصد بعض من تلك الأفكار حول مستقبل الغرب في لقاء جمع بين الإمام محمد عبده والمفكر البريطاني "هربرت سبنسر" عام 1903، وفي اللقاء أبدى "سبنسر" قلقه المتزايد من استحواذ الأفكار المادية على العقل الغربي، ورأى أن ذلك يضعف الفضيلة، ويعجل بالحرب المروعة بين الأمم الأوروبية لتحديد الأمة الأقوى، وقد صدقت نبوءة سبنسر، فكان اشتعال الحرب العالمية الأولى عام 1914.
وقد قدم ثلاثة من كبار الفلاسفة والمؤرخين الغربيين رؤى مهمة حول أزمة الغرب وقرب انهيار الغرب، هم: الفيلسوف الألماني أوزوالد شبنجلر، والمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، والكاتب الأميركي جيمس بيرنهام، وتنبأ الثلاثة بانحدار الغرب وسقوطه المحتمل.
المؤرخ والفيلسوف الألماني "أوزوالد شبنجلر" أصدر كتابه "انحدار الغرب" The Decline of the West في مجلدين في الفترة ما بين 1918 و1923، وبيع من الكتاب حينها أكثر من مائة ألف نسخة، ووصفت رؤيته بأنه تشاؤمية، ورأى فيه أن الحضارة الغربية جزء من حضارات أكبر شهدتها البشرية، ومرت تلك الحضارات بأطوار من الشباب والنمو والنضج ثم التدهور والموت في نهاية المطاف، وعدد "شبنجلر" عوامل هذا الانحدار منها النزعة التوسعية وصعود الطبقة الرأسمالية.
وقد قرأ المؤرخ "أرنولد توينبي" الجزء الأول من كتاب "شبنجلر" عام 1920، وأحس أن السؤال الذي طرحه يلح عليه أيضًا، وكتب "توينبي" عن نشأة الحضارات وصعودها وتطورها وانحدارها وموتها عبر التاريخ، ورغم أن توينبي لم يكن متشائمًا مثل شبنجلر، إلا أنه كان يعتقد أن اضمحلال الحضارة الغربية وموتها سوف يكون نتيجة لعدم رغبة الغرب أو عجزه عن الاستجابة بشكل كاف للتحديات المستقبلية.
أما "جيمس بيرنهام" في كتابه "انتحار الغرب" الصادر عام 1964، فكان منظوره لانحدار الغرب جيوسياسيًّا، حيث تضاءلت المساحة السياسية التي يسيطر عليها الغرب على الخريطة العالمية، وتضاءل معها نسبة السكان الخاضعين للغرب، وكذلك قلت الموارد التي يهيمن عليها الغرب، ومما طرحه "بيرنهام" أن جزءًا من هذا الاضمحلال للغرب راجع إلى اضمحلال الدين، والإفراط في الرفاهية المادية، وفقدان الإيمان بتفوق الحضارة الغربية، ورأى أن الليبرالية تتحالف مع الانحلال، وكلاهما من عوامل ضعف الغرب؛ بل إنه أسمى الليبرالية بـ"أيديولوجية الانتحار الغربي"، ومما قاله: "إن الليبراليين غير مجهزين للدفاع عن الحضارة الغربية وإنقاذها لأنهم لا يعتقدون أنها متفوقة على الحضارات الأخرى".
والواقع أن الكتابات التي تحدثت عن نهاية الغرب نظرت إلى عوامل مختلفة ذات انعكاسات على قوة الغرب؛ فجزء من الكتابات التي ظهرت في الفترة المرتبطة بالحربين العالميتين انصرفت إلى أزمة الغرب في نمو القوميات وتطرفها، وحالة الصدام داخل الجسد الغربي، وهيمنة المادية على الغرب بعد الثورة الصناعية.
لكن الرؤى والكتابات التي جاءت بعد ذلك نظرت لانهيار الغربي مقارنة بصعود قوى عالمية جديدة خاصة الصين واليابان والهند وماليزيا وقدرتها على الإنتاج والمنافسة وفتح الأسواق والوصول إلى مصادر الطاقة خاصة النفط.
وهناك كتابات أخرى تحدثت عن المشكلة السكانية من شيخوخة المجتمعات الغربية نتيجة تراجع نسبة الشباب لصالح كبار السن، وانقراض مؤسسة الأسرة لحساب حياة المتعة بلا إنجاب، وتزايد معدلات الاستهلاك، والاعتماد على الاقتصاد الخدمي بدرجة تفوق الاقتصاد الإنتاجي؛ فمثلا كتاب "موت الغرب" للمفكر الأمريكي باتريك جيه. بوكانن تحدث عن الأزمة الديموغرافية في الغرب، مؤكدًا أن هبوط عدد السكان هو سمة الأمم والحضارات التي تعيش حالة انحطاط.
أما كتاب "انهيار المجتمعات المعقدة" لـ"جوزف تاينتر" فقارن بين الإمبراطورية الرومانية والعالم الحديث، والغربي تحديدًا. يقول في هذا الصدد إن أحد أهم الدروس المستفادة هو أن التعقيد له كلفة ينبغي دفعها. وكما في قوانين الفيزياء الحرارية حيث الحفاظ على أي نظام معقد يستهلك طاقة، كذلك المجتمع الإنساني.
وفي الكتاب الفرنسي الصادر عن مجلة لوموند الفرنسية عام 2014 بعنوان" تاريخ الغرب: انهيار أم تحول؟" والذي شارك فيه مفكرون وصحفيون ومؤرخون، فنظر إلى مسألة انهيار الغرب من منظور فقدانه الريادة في العالم، وينطلق الكتاب من الإمبراطورية الرومانية التي يعتبرها بعض المؤرخين النواة الحقيقية لتأسيس الغرب ثم يحلل مراحل صعود الغرب وأزماته.
أما البروفيسور الأمريكي بنيامين فريدمان -أستاذ الاقتصاد السياسي- فشبّه المجتمع الغربي الحديث بدراجة مستقرة تدور عجلاتها بفضل النمو الاقتصادي، وأنه إذا تباطأت هذه الحركة الدافعة إلى الأمام أو توقفت، فإن الركائز التي تحدد المجتمع خاصة الديمقراطية والحريات الفردية، سوف تبدأ في الترنح، وقال: "إذا لم نجد وسيلة لإعادة العجلات إلى الحركة، فسوف نواجه في نهاية المطاف انهيارًا مجتمعيًّا كاملاً".
ويمكن رصد أيضًا النموذج الذي توصل إليه عالم الحاسوب والاتصالات الأمريكي "صفا موتيشاري" عام 2014، ورأى أن هناك عاملين مهمين في تحديد الانهيار، هما: الضغط البيئي، والطبقية الاقتصادية.
وكذلك رأى أستاذ الاستراتيجية النرويجي "يورجن راندرز" في كتابه "2052: توقعات عالمية للأربعين عامًا القادمة" والذي تحدث عن بعض الأزمات الكبرى التي تهدد الغرب، منها أزمة المناخ واللاجئين والفجوات الاقتصادية الواسعة التي تنذر بكوارث بسبب عدم المساواة.