الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
15 - رقم الاستشارة : 1835
04/05/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته د. أميمة،
أنا شاب في أواخر العشرينات، أعمل في الخارج منذ عدة سنوات، وأحاول بناء مستقبلي المهني والمادي، وقد تمت خطبتي منذ فترة قصيرة.
منذ فترة بدأت صحة والدي –وهو رجل مسن– تتدهور بشكل واضح، وأمي تُخبرني يوميًّا أن حالته النفسية سيئة، وأنه يُردد دائمًا: "نفسي أشوف ابني".
رغم بُعد المسافة وضغط العمل، سافرت لأراه مؤخرًا، وعندما نظرتُ في عينيه شعرت بانكسارٍ وألمٍ لم أرهما من قبل.
أحسست أنه يحتاج إلى وجودي بجانبه لا لشيء مادي، وإنما لحضوري الإنساني والدعمي النفسي.
ومنذ عودتي، بدأت أفكر جديًّا في ترك عملي بالخارج والعودة للاستقرار بجانبه، حتى لو اضطررتُ لبدء مشروع بسيط أو حتى وظيفة متواضعة.
لكن خطيبتي رفضت الفكرة تمامًا، وقالت لي: "ما الذي سيُضيفه وجودك بجانبه؟ الأفضل أن تستمر في عملك وتُرسل لهم المال، فهم بحاجة للمال وليس لوجودك الجسدي".
أنا لا أُنكر أهمية المال، لكنّي مؤمن أن الاحتياج النفسي في هذه المرحلة يفوق أي دعم مادي.. فهل قراري بالعودة فيه تهوّر؟ أم أن إحساسي في محله؟ وهل من الحكمة أن أُغضب خطيبتي لأجل والدي؟
أرجو نصيحتك.. وشكرًا مقدمًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
بارك الله فيك على إحساسك الإنساني النبيل، ومشاعرك الطيبة تجاه والدك، وهذا في حد ذاته من علامات الوفاء والبرّ، التي قلّت في زماننا.
ما تشعر به ليس عاطفة عابرة، بل هو ما يُسمّى بـ"الحاجة الوجدانية للتفاعل الإنساني" (Emotional Availability)، وهي حاجة أساسية لا تقل أهمية عن الاحتياجات المادية، بل في بعض الأحيان، تتجاوزها أثرًا في النفس والجسد.
فوجودك بجانب والدك، في لحظة ضعفه وتقدّمه في العمر، يُمثّل دعمًا نفسيًّا مباشرًا يُخفف عنه مشاعر العزلة، ويُشبع حاجته إلى الأمان، وهو أمر حاسم لصحة الكبار النفسية، كما أظهرت دراسات متعددة حول "الشيخوخة والاحتياج الوجداني".
قضيتك ليست صراعًا بين "المال" و"المشاعر"، بل هي في جوهرها اختيار بين "قيمة الوفاء" و"منهجية التخطيط البارد"، وبين "أن تكون" و"أن تملك".
وقد قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه:
ليس الجمال بأثواب تزيننا ** إن الجمال جمال العلم والأدب
وأنت الآن تُجسّد جمال الأخلاق والبرّ، وهذا من صميم الدين والرجولة.
وقد قرن الله تعالي برّ الوالدين بطاعته، فقال سبحانه: {وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا}، فانظر كيف قدم البرّ بعد التوحيد مباشرة، مما يدل على مكانته العظمى.
وهنا دعني أذكرك أن "البر لا يؤجل"، و"الفرص لا تتكرر"، وقد تفوتك فرصة أن تكون مع والدك في أيامه الأخيرة، وتندم حين لا ينفع الندم، فهل هناك ألم أشد من حسرة قلب يقول: "ليتني كنت معه حين نادى.. ولم أجب"؟
أما موقف خطيبتك، فيحتاج إلى نقاش هادئ وحكيم. لا أُقلل من شأن مستقبل العمل، لكن الحياة لا تُبنى فقط على العائد المادي، بل على القيم المشتركة والرؤية الإنسانية للعلاقات.
فإن كانت رؤيتها للعلاقات قائمة فقط على الربح والخسارة، فهذا مؤشر مهم ينبغي أن تتوقف عنده وتُعيد تقييم التوافق القيمي والفكري بينكما؛ لأن الزواج ليس فقط مودة، بل أيضًا تشابه في الرؤى تجاه الحياة والأزمات.
* وهنا فنصيحتي لك:
إن قررت العودة لوالدك، فافعل ذلك بعقلانية وبتخطيط مناسب، وضع خطة بديلة للعمل، وابدأ مشروعًا بسيطًا كما نويت، لتجمع بين البرّ والاستقرار، وتحقق التوازن بينهما.
* همسة أخيرة أذكرك فيها بوصايا الله تعالى لك:
قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، في هذه المرحلة لوالديك لن تجد -بعد الله تعالى- من هو أرحم على والديك منك، ولن يجدا قلبًا أحن عليهما من فلذة كبدهما البار، فكن بالفعل بارًّا لهما، حكيمًا، متوازنًا.
ولا تنسَ أن رضا الوالدين مفتاح البركة، ودعاء الأب لا يُرد، كما جاء في الحديث الشريف: "ثلاث دعوات لا تُرد: دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر"؛ فثق أن أي تضحية تبذلها من أجل والديك، سوف يعوضك الله عنها أضعافًا، وتكون خيرًا لك.
أسأل الله أن يُبارك فيك، ويُيسر لك الخير حيث كان، ويكتب لك برّ والدك أجرًا مضاعفًا في الدنيا والآخرة.