الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : روح العبادات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
23 - رقم الاستشارة : 2998
21/10/2025
أنا رجل متدين في الأربعينات، متزوج وعندي أولاد، والناس واخده عني فكرة إني مثالي.
صراحة أنا باتكلّف وباجهد نفسي عشان أفضل دايمًا على الصورة دي قدام زوجتي وأولادي والناس، وبخاف جدًّا إن أي حد يشوفني في حالة تقصير أو ضعف أو معصية.
الأمر ده خلاني أشك في نيتي، فهل الخوف الشديد ده من نظرة الناس يعتبر رياء؟
وهل الصح إني أكون على طبيعتي بالكامل وأبطل تكلف، حتى لو ده قلل من قيمتي في نظر الناس؟
مرحبًا بك أخي الكريم، وشكرًا جزيلًا على ثقتك بنا، وأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يشرح صدرك، وييسر أمرك، ويرزقك الإخلاص في القول والعمل، ويجعل سريرتك خيرًا من علانيتك، ويوفقك لكل ما يحبه ويرضاه، وبعد...
فإني أعلم جيدًا مدى الجهد الذي تبذله وأنت تحاول المحافظة على تلك «الصورة المثالية» التي رسمتها لك الأعين، وكأنك تسير في حقل ألغام، تخشى أن تخطو خطوة خاطئة فتهدم كل ما بنيته.
لكن يا أخي الحبيب، دعني أصارحك القول: إن الإنسان ليس آلة مبرمجة على الكمال، بل هو كائن بشري يجمع بين الطين والروح، بين الضعف والقوة، بين النقص والكمال المنشود. هذه الطبيعة البشرية هي جوهر إنسانيتنا وجمالها، وقد وصفها خالقها جل وعلا بقوله: ﴿وخُلِقَ الإِنسانُ ضَعيفًا﴾ [النساء: 28]. فكيف تريد من نفسك أن تكون «مثاليًّا» على الدوام؟!
إن الخوف من سقوط الصورة المثالية هو عبء نفسي ثقيل، يسرق منك طعم الطاعة وراحة البال، ويحول العلاقة مع الأهل والناس إلى استعراض مستمر غاية في الإرهاق.
هل الخوف من نظرة الناس يعتبر رياء؟
إن الرياء (المذموم شرعًا) هو أن تفعل الطاعة لأجل مدح الناس، أو أن تتركها خوفًا من ذمهم، وأن يكون الباعث الأصلي للعمل هو رغبتك في نظر الناس؛ لا ابتغاء وجه الله.
إن الخوف من نظرة الناس هو شعور فطري بشري، وهو جزء من «حُبِّ الثناء» الذي جُبلت عليه النفوس. إن مجرد خوفك من أن يراك الناس على تقصير أو معصية، ليس رياء حقيقيًّا بقدر ما هو إحساس طبيعي بـ «الحياء» أو «الخوف من الفضيحة».
متى يتحول الخوف من نظر الناس إلى رياء؟
يتحول الخوف من نظر الناس إلى رياء إذا كان هذا الخوف هو ما يدفعك إلى فعل الطاعة أو التكلف فيها، بحيث لو كنت وحدك لما فعلتها بالكيفية والحماس نفسيهما.
ولتمييز حالك ومعرفة موقفك: إن كنت تُحسن العبادة لأن الله أمرك، وتجتهد في عدم التقصير لأنك تحب الكمال وتكره المعصية، ثم شعرت بـ «انزعاج» من أن يرى الناس تقصيرك؛ فهذا ليس رياء، بل هو حياء أو خشية من الفضيحة. وهو ما ذكره بعض العلماء في قوله: «إن حسَّن عمله لاطلاع الله عليه، فذلك إخلاص، وإن حسَّنه لاطلاع الناس عليه، فذلك رياء». فإذا انضم إحسانك للعمل بسبب نظر الناس مع إحسانك بسبب نظر الله، فالعبرة بالدافع الأقوى الذي يصدر عنه العمل.
إن الخوف المحمود على المستويين الاجتماعي والإيماني، هو الذي يجعلك تحافظ على هيبة التدين واحترام المجتمع، وتحرص على أن تكون قدوة لأولادك وزوجتك. وكذلك إن حرصك على عدم إظهار المعصية هو ستر على نفسك وإعانة لغيرك على رؤية النموذج الجيد، وهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلسان الحال.
أما الخوف المذموم فهو الذي يجعلك تعيش في قفص التكلُّف، ويدفعك إلى الفخر بالطاعة والمن بالعمل، وهذا ما يحبطه.
هل الأفضل أن تكون على طبيعتك حتى لو قلل ذلك من قيمتك؟
أجيب عن سؤالك هذا إجابة مباشرة: نعم، ولكن مع تحديد وضبط لمفهوم «الطبيعة». بمعنى ألا تخالف هذه الطبيعة الصدق مع النفس ومع الناس، فالإسلام دين الحقيقة والصدق. والعَيش «الصادق» مع نفسك ومع الناس يزيل عنك ثقل التكلف. ولكن الصدق هذا لا يعني أبدًا فضح النفس بالمعصية أو الضعف؛ بل يعني عدم ادعاء الكمال والاعتراف بالبشرية.
إن الصدق لا يتنافى أبدًا مع الستر وعدم المجاهرة بالمعصية، وليس معناه أن تظهر كل ضعف وكل زلة! يقول النبي ﷺ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ» [رواه البخاري]. والمجاهرة هي إظهار المعصية بعد الوقوع فيها.
فكن يا أخي على طبيعتك، بمعنى ألا تتكلف ما ليس فيك، أو ما تجهد به نفسك لإرضاء الناس، ولا تدَّعي الكمال، ولكن في الوقت نفسه، لا تُظهر عيوبك وضعفك لأولادك أو الناس؛ بل استر نفسك قدر المستطاع، وتُب إلى الله، واجتهد في الإصلاح.
الأثر التربوي لخلع «قناع المثالية»:
بالنسبة للزوجة والأولاد، قد يقلِّل خلع هذا القناع في نظرهم بعض «قيمة القدوة الخارقة»، لكنه سيزيد من قيمة «القدوة الواقعية القابلة للتقليد»؛ حين يرى أبناؤك أباهم مجتهدًا في الطاعة، لكنه أيضًا يضعف أحيانًا، ثم يتوب ويستغفر ويصحح مساره، فإنهم يتعلمون درسًا أهم من درس الكمال، وهو درس كيفية التعامل مع الخطأ والعودة إلى الله، ودرس أن البشر يخطئون بطبيعتهم، وأن التوبة هي سبيل النجاة.
كما أن التكلف يخلق حاجزًا بينك وبين أسرتك، وعندما تكون أكثر طبيعية وصدقًا (في حدود الأدب والستر)، يصبح التواصل أعمق، ويجدون فيك «إنسانًا» يلجؤون إليه لا «صورة» يخافون منها.
خطوات عملية للتخلص من مشقَّة التكلف:
* الاعتراف بالضعف البشري: اخلُ بنفسك وقل لها: أنا بشر، أُخطئ وأُصيب، ولن أجهد نفسي في محاولة الظهور بمظهر الملائكة.
* تجديد النية دومًا: كلما أحسست بالتكلف لشيء، جدد نيتك وقل: «اللهم إني أعمل هذا العمل (الصلاة، الكلمة الطيبة، الإحسان) ابتغاء وجهك، لا لمدح فلان أو علان».
* التربية لواقعية: اسمح لنفسك، في المواقف التربوية مع أولادك، أن تشاركهم بعض ضعفك الذي تم التغلب عليه (بأسلوب حكيم ليس فيه مبالغة ولا فضح)، كأن تقول: «أنا أحيانًا أُخطئ؛ لكني أتذكر فأستغفر». فهذا يبني جسر القدوة الصادقة.
وختامًا أيها الأخ الفاضل، إن أجمل ما يمكن أن تقدمه لزوجتك وأولادك والناس هو «الإخلاص المتواضع»: الإخلاص الذي يُصلح السريرة ويجعل أعمالك كلها لله، والتواضع الذي يجعلك تستشعر ضعفك البشري، ولا تلوم نفسك على عدم الوصول إلى الكمال المطلق، ولا تجهدها بحمل صورة مثالية لا يطيقها بشر.
اجعل الناس يحبونك لما أنت عليه حقًّا، لا لما تتكلفه لهم. كن صادقًا مع الله، وسيتولى الله إصلاح صورتك في أعين خلقه.
تذكر دائمًا أن معيار القيمة الحقيقي هو ما في قلبك ونيتك، وما تفعله بينك وبين ربك، لا ما تراه الأعين.
أُكثر من دعاء النبي ﷺ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَرِيرَتِي خَيْرًا مِنْ عَلَانِيَتِي، وَاجْعَلْ عَلَانِيَتِي صَالِحَةً» [رواه البيهقي].
أسأل الله أن يرزقك لذة الإخلاص وطمأنينة القلب، وأن يعينك على إظهار الجمال وستر النقص، ويجعلنا وإياك من عباده المخلصين.
روابط ذات صلة:
أرهقني التكلف في إظهار «المثالية» وأخشى الرياء
كيف يعالج الداعية هاجس الرياء وحب الظهور؟