الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
58 - رقم الاستشارة : 1790
29/04/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أنا أب لطفل يبلغ من العمر خمس سنوات، وأنا وزوجتي نحاول جاهدين أن نربيه على قيم الانضباط، والاعتماد على النفس، والتمييز بين الصواب والخطأ. نحرص على ألا نلبي له كل مطالبه، ونعلمه قول "لا" أحيانًا عندما يكون طلبه غير مناسب أو يتعارض مع التربية السليمة.
لكن المشكلة أن والدي – جد الطفل – يسكن معنا، وهو شديد التعلق بحفيده، لكنه يُفسد علينا التربية تمامًا، رغم حبه له ونيته الطيبة. فهو يدلل الطفل بشكل زائد عن الحد، ويلبي له كل طلباته حتى لو كانت غير مناسبة. بل ويتدخل أحيانًا في توجيهاتنا أمام الطفل، فينتقدنا إذا منعناه من شيء، أو يعطيه ما منعناه منه. أصبح الطفل يعرف أن "جده هو المَلاذ"، فيرفض أوامرنا أحيانًا، ويقول: "جدو هيجيب لي"، أو "هقول لجدو".
هذا الأمر بدأ يُفقدنا السيطرة على الطفل، وصرنا نشعر أن جهودنا تضيع هباء. أخشى أن ينشأ ابني مدللًا، عنيدًا، لا يعرف الحدود ولا يحترم السلطة التربوية. كيف أتصرف؟ وهل أواجه أبي؟ أم أترك الأمور تمضي بحكم السن والضعف؟ وهل من طريقة نحقق بها التوازن دون أن نخسر علاقة الطفل بجده، أو نخسر جهودنا التربوية؟
مع خالص تقديري،
والد حائر.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
مرحبًا بك أيها الأب الواعي، الحريص على تربية طفله تربية سوية، يرضاها الله، ويقرّ بها عينكما.
أشكر لك حرصك وصدق عرضك للمشكلة، وهو أول خطوات الحل. وأؤكد لك أن ما تشعر به من قلق تجاه تدليل الجد لطفلك هو أمر شائع في كثير من البيوت، لا سيما حين يكون الحفيد محبوبًا، والجد مفعمًا بالعاطفة والارتباط.
لكن دعني أبدأ بما هو جوهري:
حيث لا تعارض بين الحب والضبط، بين الحنان والحدود، بل التربية السليمة تجمع بينهما.
فمن أساسيات التربية الحديثة ما يُعرف بـ "Authoritative Parenting Style" أو "نمط التربية التوجيهية الحازمة"، وهي التي تجمع بين الدفء العاطفي والانضباط السلوكي. وفي هذا النمط يتعلم الطفل أن يُحَبَّ، لكنه أيضًا يُقوَّم ويُوجَّه.
أما عن تدليل الجد، فهو سلوك شائع، يُقصد به إشباع رغبات الطفل دون قيود، اعتقادًا بأن ذلك نوع من الحب، لكنه في حقيقته يضعف عمليات الضبط الداخلي عند الطفل، بل ويُشوش على مبدأ "الثواب والعقاب"، ويُحدث ما يُعرف بـ"Inconsistent Parenting" أو "التربية المتذبذبة"، وهي من أخطر العوامل المدمرة للسلوك المستقر.
لكن تأمل معي هذه الحكمة: "الطفل كالزرع، يحتاج إلى الماء والضوء، لكنه أيضًا يحتاج إلى تقليم"، فإن زاد الماء فسد، وإن نقص ضوء الضبط تيبّس.
وما يحدث الآن ـ بحسن نية من والدك ـ يُعيد صياغة السلطة التربوية في ذهن الطفل، ويجعل الجد هو المرجعية المريحة، والأبوين هما مصدر المنع، وهذا يُفقدكما دوركما، بل ويفتح الباب لما يُعرف تربويًّا بـ"Triangulation" أي الدخول في مثلثات تربوية تؤدي لتشتت السلطة، وفقدان الحسم في القرار.
لكنّي لا أنصح أبدًا بأن تتخذ موقفًا حادًّا من والدك، فهذا ليس من البر، ولا من الحكمة؛ بل أوصيك بثلاثة مسارات متوازنة:
أولًا: الحوار الهادئ مع والدك
اقترب من والدك بلطف، وعبّر له عن امتنانك لحبه واهتمامه، ثم ناقشه بهدوء بأن الإفراط في تلبية رغبات الطفل يُضرّه على المدى البعيد، واذكر له قول النبي ﷺ: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وبيّن له أن الراعي لا يُعطي دوابّه ما يهلكها، بل ما ينفعها.
كما أن رسول الله ﷺ علمنا أن: "كفى بالمرء إثمًا أن يُضَيِّع مَن يعول"، وهنا قد نأثم بضياعنا للحفيد بسبب التدليل الزائد. فحاول إقناع والدك بالحسنى.
ثانيًا: محاولة التوحيد بينكما في الرسائل التربوية
بعد الاتفاق مع والدك على النمط التربوي، اطلب منه أمام الطفل أن يدعم توجيهاتكما، كأن يقول له: "اسمع كلام بابا وماما، هم يعرفون الصح"، وبهذا تعود السلطة إليكما دون صدام.
ثالثًا: من الجيد تقوية العلاقة العاطفية مع الطفل
اجعل لطفلك منكما الكثير من الحب، والاحتواء، واللعب، والتشجيع، حتى لا يبحث عن التعويض عند الجد؛ لأن الطفل إذا شبع وجدانيًّا لا يُصبح أسيرًا للمطالب السطحية.
وتذكّر أن "Emotional Security" أي الأمن العاطفي، هو حجر الأساس في التربية السوية.
* وهمسة أخيرة للأب الحائر:
تذكّر قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، فكما تحرص على صلاح ولدك، لا تنس بر والدك، ولتجعل من هذه الرحلة التربوية ميدانًا يجتمع فيه ثلاثة أجيال على طاعة الله ومحبة بعضهم بعضًا.
سدد الله خطاكم، وأعانكم على مهمتكم النبيلة، فهي من أجلّ القُربات.