تجارب الأهل الفاشلة تخيفها من الزواج.. كيف تفك العقدة؟

<p>أنا شابة 26 سنة، مؤهل عالي، لا أُعاني من أي مشاكل شكلية ولا خلقية ولا دينية، لكن عندي خوف دائم من فكرة الزواج، أتهرب من الخطَّاب وأشعر بعدم الأمان تجاه فكرة الارتباط. ربما بسبب تجارب سيئة حولي أو معاناة والدتي مع والدي.</p> <p>هل رفض الزواج لهذا السبب يُعدُّ مخالفة شرعية؟</p> <p>وهل الأصل في الإنسان أن يتزوج أم أن له أن يختار العزوف إن لم يجد طمأنينة؟</p> <p><span dir="RTL">وإن كان ولا بد من الزواج، فكيف أُعالِج هذه العقدة النفسية وأقبل على الزواج؟ </span></p>

مرحبًا بك يا ابنتي، وأشكرك على ثقتك بنا وتواصلك معنا، وأسأل الله العلي القدير أن يشرح صدرك، ويزيل همك، ويُنير بصيرتك، وأن يرزقك الطمأنينة والسكينة التي تبحثين عنها، وأن يكتب لك الخير حيث كان ثم يرضيك به، وبعد...

 

هل رفض الزواج بسبب الخوف يُعد مخالفة شرعية؟

 

إن الزواج تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة، فقد يكون في حالة ما واجبًا، وفي غيرها مستحبًّا، أو مباحًا أو مكروهًا أو حتى حرامًا، حسب حال الشخص.

 

فامتناعك عن الزواج في الوقت الحالي بسبب خوفك النفسي أو عدم استعدادك لا يُعد إثمًا ولا معصية، ما دمت لا تقعين في المحرمات وتصونين نفسك. فالزواج عقد تراضٍ لا يُجبر الإنسان عليه شرعًا إذا لم تأنس نفسه له.

 

ويكون الزواج واجبًا في حالة واحدة: إذا كان المرء يخشى على نفسه الوقوع في الفاحشة، وتتوفر لديه القدرة على الزواج. هنا يصبح الزواج درعًا واقية وحدًّا فاصلًا بين الحلال والحرام.

 

وبما أنك -والحمد لله- متزنة ولا تخشين على نفسك الفتنة، ولكنك تخشين الفشل أو الظلم، فامتناعك هنا يدور بين الكراهة والإباحة، وليس التحريم. ولكن، احذري من أن يتحول هذا الخوف إلى «تحريم لما أحل الله» في اعتقادك، أو سوء ظن بالله -تعالى- بأنه سيقدر لك التعاسة حتمًا. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تيأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].

 

فرفض الزواج ليس معصية بذاته، لكن اليأس وسوء الظن بالمستقبل هو ما يجب الحذر منه.

 

هل الأصل في الإنسان الزواج أم العزلة؟

 

الأصل في الفطرة البشرية وفي الشرع الحنيف هو الزواج والاجتماع، لا العزلة والرهبانية. إن الزواج هو سنة الحياة، وقد قال النبي ﷺ لرهط من الصحابة أرادوا اعتزال النساء للعبادة: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» [رواه البخاري]. والمقصود بـ«رغب عن سنتي» هنا هو من تركها اعتقادًا بفسادها أو ترفعًا عنها، أما من تركها لعجز أو عارض نفسي مع حُب السنة فهو ليس مشمولًا بالذم الشديد، ولكنه فوَّت خيرًا كثيرًا.

 

والزواج شُرع أصلًا لجلب الطمأنينة، يقول المولى عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]. فالأصل في الزواج السكن، وما رأيتِه من معاناة والديك هو «انحراف عن الأصل» وليس هو القاعدة. فلا يُحكم على القاعدة (الزواج سكينة) من خلال الاستثناءات (الزواجات الفاشلة).

 

 كيف تعالجين عقدة الخوف وتُقبلين على الزواج؟

 

أنتِ الآن أمام تحدٍّ نفسي وفكري، وللتغلب عليه أنصحك باتباع الخطوات العملية التالية:

 

1- تصحيح التشوُّه المعرفي:

 

أكبر خطأ يقع فيه العقل البشري هو «التعميم». عقلك الباطن يقول: «أبي وأمي تعذبا في الزواج، فإذن كل زواج هو عذاب». وهذا استدلال غير منطقي. فلو أن شخصًا أصيب بتسمم من طعام في مطعم معين، هل المنطق أن يمتنع عن الأكل بقية حياته ويموت جوعًا؟ أم يختار بعناية ونظافة في المرة القادمة؟

 

انظري حولك بإنصاف، فكما توجد نماذج سيئة، توجد نماذج رائعة ومستقرة. ابحثي عنهم، اقرئي سير الصحابة والصالحين، وانظري لبيت النبوة كيف كان مليئًا بالحب والمودة. السيدة خديجة كانت للنبي ﷺ الملاذ، والنبي ﷺ كان للسيدة عائشة الأنيس.

 

2- حسن الاختيار:

 

الخوف يزول بالتمكن من الأسباب. خوفك من تكرار مأساة والدتك يتبدد إذا أحسنتِ الاختيار وفق المعيار النبوي الدقيق. قال رسول الله ﷺ: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» [رواه الترمذي].

 

ولاحظي أنه ﷺ قرن الدين بالخلق. فصاحب الدين بلا خُلق قد يسيء عشرتك باسم الدين، وصاحب الخُلق بلا دين لا يؤتمن. الرجل التقي النقي إذا أحب زوجته أكرمها، وإذا كرهها لم يظلمها.

 

3- سلاح الاستخارة:

 

أنتِ تبحثين عن الأمان، ولا أمان أصدق من تفويض الأمر لعلام الغيوب. صلاة الاستخارة هي الدواء الأنجع للقلق. فعندما يتقدم لك خاطب، صلِّي الاستخارة وقولي دعاءها المعروف.

 

إن الاستخارة تنقل الحِمل من كتفك الضعيف إلى تدبير الله الحكيم، وحينها ستشعرين إما بانشراح وإقبال فتمضين في الزواج بهذا الخاطب، وإما بصرف للأمر دون ندم.

 

4- الحوار والمكاشفة في فترة الخطبة:

 

الخطبة شُرعت لتبديد هذه المخاوف. يحق لك في الرؤية الشرعية وفترة الخطبة (بضوابطها) أن تتحدثي وتسمعي وتختبري طباع الخاطب. لا تدخلي الزواج وأنت مغمضة العينين، بل ناقشي مخاوفك وتطلعاتك، فهذا حقك.

 

5- الدعاء:

 

داومي على دعاء: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74].

 

وختامًا يا ابنتي، إن الألم الذي عاشته والدتك هو قدرها واختبارها، وأجره عند الله محفوظ. أما أنت فصفحة بيضاء جديدة، تملكين وعيًا لم تملكه هي، وتملكين تجارب يمكنك التعلم منها لتجنب الأخطاء. لا تعاقبي نفسك بحرمانها من السكن والمودة والرحمة والأمومة بسبب أخطاء غيرك.

 

أسأل الله أن يربط على قلبك، وأن يرزقك الزوج الصالح، الهيِّن الليِّن الذي يكون لك نعم الرفيق والسند، وأن يجعلك أسعد خلقه بقضائه.

 

روابط ذات صلة:

تجارب الزواج الفاشلة هل تصنع الخوف والوحدة؟

قصص الفاشلين تخيفني من الزواج.. اعقليها وتوكلي