<p>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسعى في طريق الدعوة، وأحاول أن أقدم ما أستطيع من كلمات أو محاضرات أو منشورات نافعة. لكنني أتعرض أحيانًا إلى نقد مؤلم من بعض الناس الذين يقولون: إنك تفعل هذا رياءً، أو إن قصدك من الدعوة الشهرة والظهور، أو إنك تتزين للناس بعملك.</p> <p>وهذه الكلمات تؤثر في قلبي وتربكني، حتى أكاد أترك العمل أحيانًا خوفًا من أن أُتَّهَم بالرياء أو أن يختلط في نيتي شيء من حظوظ النفس. فكيف أتعامل مع مثل هذه الاتهامات، وكيف أحافظ على صفاء نيتي في هذا الطريق الصعب؟</p>
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً ومرحبًا بك أخي المبارك. لقد فتحت بقلبك قضية عظيمة من أخطر قضايا الدعاة: قضية النية والإخلاص، وما يصاحبها من خوف الرياء.
وهذه في حقيقتها علامة خير لا شر، إذ لا يخشى على نفسه من الرياء إلا مَن في قلبه أصل الإخلاص. أما الغافل فلا يبالي! فطوبى لك إذ راقبت قلبك، وحرصت على صفاء نيتك، وهاك بعض البيان الشافي في هذه المسألة الدقيقة.
الخوف من الرياء علامة إيمان
جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: [أخوفُ ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء]. فالخوف من الرياء طبيعة لازمة للمؤمنين الصادقين، لأنه داء خفي. لكن الفرق أن المؤمن يجاهد نفسه ليدفعه، أما المنافق فلا يبالي به.
الرياء لا يبطل العمل كله بالضرورة
كثير من الشباب يتصور أن أي حضور للرياء في القلب يبطل العمل. والصحيح أن العلماء قرروا أن الخاطر العابر لا يضر إذا لم يُسترسل معه صاحبه. قال الله تعالى:
﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]. ومن رحمات الله بخلقه أنه يتجاوز عن الإنسان ما وسوس به صدره ما لم يعمل أو يتكلَّم، فإن دافعت الخاطر ولم تجعله باعثك الأصلي على العمل، فعملك بإذن الله مقبول.
علاج اتهامات الناس
اعلم أن الناس لن يتركوا قائلًا أو فاعلًا إلا وجدوا له قولًا، وقد قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ﴾ فإن كان الأنبياء اتُّهموا بالكذب والجنون والسحر، فما بالك بغيرهم من الدعاة؟ فاصبر ولا تلتفت إلى مثبطات الناس، واجعل نيتك لله، ولا تترك الخير لأجل اتهام الآخرين.
النية عمل قلبي بينك وبين الله
الله سبحانه هو المطلع على السرائر، قال: ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ والنبي ﷺ قال: [إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى]، فاجعل قلبك مشغولًا بتصحيح نيتك لله، ولا تنشغل بظنون الناس وألسنتهم.
وسائل عملية لتجديد النية
1) استحضر الآخرة قبل كل عمل: قل لنفسك "هذا لله، لا للناس"، وكرر دعاء: اللهم اجعل عملي كله صالحًا ولوجهك خالصًا، وأجمل من ذلك دعاء النبي الكريم: (اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك شيئا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه).
2) أكثر من الأعمال الخفية: اجعل لك عبادات وأعمال خير لا يعلم بها أحد، فهي زاد الإخلاص ودواؤه.
3) تذكر سرعة زوال الشهرة: فما قيمة مديح الناس أمام وقفة الحساب؟ وما نفع كلمات الثناء إذا رد الله العمل؟
4) صحبة المخلصين: اجلس مع من يذكرك بالله لا بمنصب ولا بسمعة.
5) المحاسبة المستمرة: اجعل لك أوقاتًا تفتش فيها قلبك وتراجع مقاصدك.
لا تدع الاتهام يوقفك
من أخطر مداخل الشيطان أن يثني العبد عن العمل بدعوى الخوف من الرياء. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. فالمطلوب أن تعمل وتخلص، لا أن تترك العمل خوفًا من قول الناس.
الثبات على الدعوة مع التزكية القلبية
الدعوة مسؤولية وأمانة، وتركها بدعوى الخوف من الرياء تقصير. المطلوب هو الجمع بين الأمرين: الاستمرار في العمل، ومجاهدة النفس في الإخلاص، فإن العبد لا ينفك عن المجاهدة حتى يلقى الله. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].
نصائح ختامية
- اجعل لك وردًا من الاستغفار، فإنه يمحو أثر الرياء ويجدد صفاء القلب.
- احرص على الدعاء بهذا الدعاء العظيم (الذي سبق بيانه): ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه)).
- ضع لنفسك قاعدة ذهبية: اعمل، ثم انسَ عملك، واشتغل بالله لا بالناس.
أخي المبارك، اتهام الناس لك بالرياء لا يضر إن خلصت نيتك لله، بل هو امتحان يكشف قوة قلبك. فاستمر في دعوتك، وجدد نيتك، واطمئن أن الله مطلع على قلبك، ولن يضيع عملك، وأسأل الله أن يرزقك الإخلاص في السر والعلن، وأن يصرف عنك الرياء صغيره وكبيره، وأن يبارك في دعوتك ويجعلها سببًا لهداية الخلق، وذخرًا لك يوم القيامة.
روابط ذات صلة:
أرهقني التكلف في إظهار «المثالية» وأخشى الرياء
كيف يعالج الداعية هاجس الرياء وحب الظهور؟
وساوس الرياء في الدعوة.. كيف أتعامل معها؟
الصوت الجميل عند قراءة القرآن بين نعمة الله ووسوسة الرياء