مع اقتراب رمضان.. كيف أحب الطاعة وأكره المعصية؟

<p>أنا شاب أحاول الالتزام بطاعة الله، لكني أجد نفسي في صراع دائم بين الرغبة في التقرب إلى الله وبين ضعف النفس والانجراف أحيانًا نحو المعاصي، خاصة مع ضغوط الحياة اليومية. ومع اقتراب شهر رمضان، أشعر برغبة شديدة في استثمار هذا الشهر المبارك لتقوية علاقتي بالله، لكني أخشى أن يكون اندفاعي مؤقتًا، كما حدث معي في سنوات سابقة، حيث أبدأ رمضان بحماس، ثم سرعان ما يفتر حماسي وتضعف همتي.</p> <p>ما العوامل التي تساعدني &ndash;نفسيًا وإيمانيًا وعمليًا&ndash; على أن أحب الطاعات وأجد فيها لذة حقيقية، وفي المقابل أن أنفر من المعاصي وأبتعد عنها بصدق، بحيث يكون هذا التغيير مستدامًا وليس مجرد حماس موسمي؟</p> <p>وهل هناك خطوات عملية يمكنني اتباعها لأحافظ على هذا الشعور حتى بعد انتهاء رمضان؟</p>

أخي الكريم، مرحبًا بك، وكل عام وأنتم بخير، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وبعد...

 

فسؤالك يعكس قلبًا حيًّا يبحث عن الله بصدق، ويشعر بالصراع بين رغبة الروح في العلو، وضعف النفس أمام المغريات. وهذا الصراع طبيعي، بل هو جزء من رحلتنا في الدنيا، قال الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10].

 

فأنت في معركة تزكية النفس، ومع اقتراب رمضان، هذا الموسم العظيم، لديك فرصة ذهبية لتثبيت قلبك على الطاعة والاستمرار عليها حتى بعد رمضان.

 

وسأحاول في السطور التالية –سائلًا الله التوفيق- أن أضع لك خريطة إيمانية وعملية تساعدك في ذلك.

 

أولًا- كيف نحب الطاعات ونجد فيها اللذة الحقيقية؟

 

اللذة الحقيقية في الطاعة تأتي من القلب، لا من مجرد العادة أو الالتزام الظاهري، وإليك بعض العوامل التي تعينك على ذلك:

 

1- معرفة الله حق المعرفة:

 

لا يمكن أن تحب أحدًا وأنت لا تعرفه، وكذلك حب الطاعة ينشأ من تعميق معرفتك بالله، بأسمائه وصفاته، برحمته وقربه منك. تأمل في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4]، هذه الآية وحدها كافية لتُشعِرك بأن الله ليس بعيدًا، بل هو أقرب إليك مما تتخيل، يسمع أنين قلبك ويرى مجاهدتك.

 

2- استشعار أثر الطاعة في قلبك وحياتك:

 

جرَّب أن تراقب نفسك عندما تواظب على الطاعة، فستجد طمأنينة عجيبة، وسكينة تملأ صدرك. النبي ﷺ قال: «وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة» [رواه النسائي]. لم تكن مجرد عبادة يؤديها، بل كانت راحته وسعادته.

 

3- طلب العون من الله بصدق:

 

أحد أسرار الثبات هو ألا تعتمد على نفسك، بل تستعين بالله دائمًا، فقد كان النبي ﷺ يكثر من الدعاء: «يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» [رواه الترمذي].

 

4- مجاهدة النفس والتدرج:

 

لذة العبادة لا تأتي دفعة واحدة، بل تحتاج إلى صبر ومجاهدة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]. فلا تتوقع أن تحب قيام الليل من أول ليلة، لكن مع الاستمرار سيصبح هو أحب لحظات يومك.

 

ثانيًا- كيف ننفر من المعاصي ونبتعد عنها بصدق؟

 

1- استحضار قبح المعصية وعواقبها:

 

المعصية قد تبدو لذيذة للحظة، لكنها تترك في القلب ظُلمة وهَمًّا، قال النبي ﷺ: «إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ سُقِلَ قلبُهُ، وإن عادَ زيدَ فيها حتَّى تعلوَ قلبَهُ، وَهوَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللَّه (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)» [رواه الترمذي]. تخيل أن كل ذنب هو نقطة سوداء تملأ قلبك، حتى يسودّ ويُغلق تمامًا والعياذ بالله.

 

2- تذكر مراقبة الله لك:

 

حين تكون وحدك، وتدفعك نفسك إلى ذنب، تذكر أن الله يراك، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 14]. كلما قويت هذه المراقبة في قلبك، ضعفت المعصية في عينك.

 

3- أشغل وقتك وقلبك بالطاعة:

 

النفس لا تقبل الفراغ، فحتى إذا أقلعت عن المعصية، لكن تركت وقتك وقلبك دون أن تملأهما بالطاعات والعادات النافعة، فستعود إليها سريعًا. أشغل وقتك بالمفيد، سواء بالعبادة، أو بالعمل، أو بالرياضة، أو بأي نشاط نافع.

 

ثالثًا- كيف نحافظ على الاستمرارية بعد رمضان؟

 

رمضان فرصة لبدء تغيير حقيقي، لكن الأهم هو أن يستمر هذا التغيير بعده. إليك بعض الخطوات التي تساعدك على ذلك:

 

1- لا تُرهق نفسك في البداية

 

كثيرون يبدؤون رمضان بحماس شديد، ثم ينطفئون بسرعة. فكن متوازنًا، اجعل عبادتك تتناسب مع قدرتك، ولا تضع لنفسك أهدافًا غير واقعية.

 

2- تبنَّ عادات صغيرة مستدامة

 

فمثلًا: بدلًا من قراءة جزء من القرآن يوميًّا في رمضان فقط، اجعلها عادة مستمرة حتى بعده، ولو بنصف جزء. قال النبي ﷺ: «أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ» [رواه البخاري].

 

3- الصحبة الصالحة

 

الصحبة تؤثر تأثيرًا كبيرًا، فإذا كنت محاطًا بأشخاص يشجعونك على الخير، فستجد نفسك ثابتًا، أما إذا كنت وحدك أو بين من يثبطونك أو يدعونك إلى المعصية، فستضعف سريعًا. قال الله عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].

 

4- حدد لنفسك «مواسم إيمانية» على مدار العام:

 

رمضان هو موسم للطاعات؛ لكنه ليس الوحيد. حدد لنفسك مواسم أخرى: صيام الإثنين والخميس، ثلاثة أيام من كل شهر (13، 14، 15)، والعشر الأوائل من ذي الحجة، ويوم عرفة، قيام الليل في بعض الليالي، حتى تبقى روحك متصلة بالله طوال العام.

 

5- راجع نفسك باستمرار:

 

اجعل لنفسك جلسة أسبوعية تراجع فيها علاقتك بالله، ما الذي تقدَّم؟ ما الذي تأخَّر؟ هكذا ستبقى على الطريق، حتى لو تعثرت قليلًا.

 

وختامًا -أخي الكريم- القصة ليست قصة رمضان فقط، بل قصة قلب يتجه إلى الله. كل خطوة تخطوها في طريق الطاعة، حتى لو بدت صغيرة، هي في الحقيقة تقرّبك إلى الجنة. قال الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ [آل عمران: 133].

 

اجعل همّك هو أن تكون قريبًا من الله، سواء في رمضان أو بعده، فإن كنت صادقًا في ذلك، فستجد أن الطاعة أصبحت أسلوب حياة، لا مجرد أعمال موسمية. أسأل الله أن يرزقك لذة الإيمان، وأن يجعلك ممن يقربهم إليه، وينعم عليهم بطاعته. اللهم آمين.

 

وأدعوك لقراءة هذه الاستشارة ففيها مزيد فائدة:

 

بين الطموح والواقع.. كيف أوفِّق بين العمل والعبادة في رمضان