وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلاً ومرحبًا بك أخي الفاضل على موقع استشارات المجتمع، وبعد:

 

فأما عن أنواع التركيز، فالتركيز له أربعة جوانب: التركيز من الناحية الأولى الناحية الطبية، والتركيز من الناحية النفسية الإيمانية، والتركيز من الناحية السلوكية، والتركيز في عالمنا وواقعنا.

 

وفي استشارة سابقة تحدثت عن التركيز من الناحية الطبية، وذكرت آراء الأطباء والخبراء في هذا الجانب، وأستكمل معك بقية الجوانب.

 

التركيز من الناحية النفسية الإيمانية

 

أخي الفاضل، والآن مع التركيز من الناحية النفسية الإيمانية. الإنسان يعيش في يومه ممارسات كثيرة من خلالها يزرع التركيز في نفسه من دون أن يشعر. تعال بنا إلى الإنسان المسلم الذي فُرضت عليه الصلاة, خمس صلوات في اليوم والليلة نحن مطالبون كمسلمين أثناء أداء الصلاة أن ننظر إلى بقعة معينة هي بقعة السجود موقع السجود.

 

تصور معي خمس مرات في اليوم تتكرر بشكل يومي وأنت أثناء أدائك للصلاة تنظر إلى هذه البقعة، لا شك أنها كفيلة بزرع مفهوم التركيز لديك، حتى أن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حينما سألت رسول الله ﷺ عن الذي يتلفت في صلاته فأجابها قائلا عليه الصلاة والسلام "تلك خلسة يختلسها الشيطان من صلاة العبد".

 

أخي، دعنا نطبق هذا التمرين الذي من خلاله نثبت أن التركيز دائما يؤدي إلى الحركة والفعل والعمل، فلتأت بقطعة بطاطس طازجة غير مطبوخة وبعود مصاص، هذا العود الذي ينطوي وينثني بسهولة، ثم أمسك البطاطس بيدك اليسرى وعود المصاص باليمنى وركز على بقعة معينة على سطح البطاطس ثم بخبطة واحدة حاول أن تخترق البطاطة بعود المصاص.

 

السؤال: هل تعتقد أن الإنسان يستطيع أن يخترق قطعة بطاطة طازجة صلبة بعود مصاص ينثني بسهولة؟ الإجابة نعم مع التركيز تستطيع أن تخترقها من أعلاها إلى أسفلها مع التركيز, جرِب وسترى بنفسك إمكانية ذلك.

 

أخي، قطعة البطاطس هذه هي عبارة عن الأهداف التي تريد أن تحققها في حياتك، عبارة عن التميز الذي تطمح أن تصل إليه، أما عود المصاص فهو أنت أيها الإنسان الضعيف (وخلق الإنسان ضعيفا) لكن يوجد داخل هذا العود عود المصاص قدرات هائلة قدرات جبارة غرسها الله سبحانه وتعالى فيك مع التركيز تتفجر تلك القدرات.

 

هذا تمرين بسيط من خلاله أريد أن أثبت أنه مع التركيز يستطيع الإنسان أن يفجر طاقاته وأن يضاعف قدراته، وأن التركيز دائمًا يؤدي إلى الحركة، فاستفد من تلك الحركة واجعلها حركة إيجابية ولا تجعلها حركة سلبية.

 

هناك قاعدة تقول: "إنه كلما زاد الإيمان عند الإنسان زاد التركيز لديه", في المعارك، على سبيل المثال موقعة بدر الكبرى كان المسلمون يركزون على النصر فأتاهم النصر من الله سبحانه وتعالى، لكن في موقعة أحد حينما نزل الرماة من فوق جبل الرماة تشتت التركيز وأصبحت الدائرة عليهم.

 

إذن الإيمان وزيادته يؤدي إلى زيادة التركيز عند الإنسان، والمسلم إذا قرأ القرآن بتمعن وتدبر فذلك يزيد في قدرته على التركيز وفي زراعته لهذا المفهوم في نفسه، وارتباط المسلم بالآخرة كذلك يزيد من قدرته التركيز؛ ففي حديث الرسول ﷺ "من جعل الدنيا أكبر همه شتت الله شمله وجعل الفقر بين عينيه، ومن جعل الآخرة أكبر همه جمع الله شمله وأتته الدنيا وهي مرغمة". أو كما قال ﷺ، الارتباط بالآخرة يجعل الإنسان أكثر تركيزا يجمع الله شمله يجمع الله شمله فيه ما فيه من معاني التركيز.

 

وكلما ابتعد الإنسان عن المعاصي ازداد التركيز لديه؛ إذ مع المعاصي يتشتت التركيز، أما سمعتم قول الشافعي:

 

شكوت إلى وكيع سوء حفظي  فأرشدني إلى ترك المعاصي

 

وأخبرني بأن العلم نور     ونور الله لا يهدى لعاصي

 

فالابتعاد عن المعاصي يزيد كذلك من التركيز, فهذا هو الجانب الثاني بشكل مختصر.

 

التركيز من الناحية السلوكية

 

أما الجانب الثالث فهو التركيز من الناحية السلوكية، وأبدأ هذا الجانب بقصة واقعية لرجل حكيم درب اثنين على الرماية بالسهم ثم بعد أن انتهى من التدريب أتى بعصفور خشبي وجعله على أحد الأغصان فوق شجرة، ثم قال للشخص الأول وللشخص الثاني استعدا لرمي سهم ليصيب عين الطائر الخشب.

 

وعلى حين كان الاثنان يستعدان وكانا في وضع الاستعداد المطلق سأل الحكيم الرجل الأول: ماذا ترى؟ فقال الرجل الأول وهو يسدد رميته أرى أغصانًا وأشجارًا وأرى طائرًا خشبيًّا وأرى عين الطائر الخشبي. فقال له توقف لا ترم فإنك لن تصيبه. ثم سأل الشخص الثاني وهو يسدد رميته ماذا ترى؟ قال أرى عين الطائر الخشبي. قال ارم فإنك ستصيب. وبالتالي مع التركيز يستطيع الإنسان أن يحقق أهدافه وأن ينجز في حياته.

 

هناك أمثله من وحي الواقع تشير إلى أهمية التركيز، وأن التركيز يضاعف القدرات ومع التركيز يأتي الإنجاز.

 

في عالم الحيوان، حينما يرى النسر فريسة وينقض عليها، هل ينقض عليها وهو يتلفت يمينًا وشمالاً؟ أبدًا نراه يركز على فريسته حتى يحقق هدفه, والحصان حينما يوضع اللجام على وجهه ما الهدف من ذلك اللجام؟ هو توجيه التركيز إليه حتى لا يتشتت تركيزه يمينًا وشمالاً.

 

ثم في عالم البصريات العدسة اللامة حينما كنا نستعملها وقد كنا صغارًا في حرق ورقة بتوجيه العدسة إلى أشعة الشمس فتأتي الأشعة مركزة على الورقة فتحرقها, مع التركيز يأتي الفعل مع التركيز يأتي الإنجاز، فمثلا أشعة الليزر المركزة تحدث عجبًا وتحقق إنجازات باهرة في عالمنا.

 

إذن التركيز مهم جدًّا في عالمنا والتلفت يشتت التركيز، التلفت يشتت تركيز الطالب أثناء أداء الامتحان, التلفت يشتت تركيز المصلي أثناء أدائه لصلاته, التلفت يشتت تركيز المقاتل أثناء معركته القتالية, والتركيز دائما يؤدي إلى الإنجاز وإلى النجاح.

 

أخي، هل رأيت إنسانًا يقود سيارته وهو يتلفت يمينًا وشمالاً؟ أبدًا فهو يركز على الطريق حتى يصل إلى الجهة التي يريد. إذن التركيز من الناحية السلوكية مهم.

 

التركيز في عالمنا وواقعنا

 

أما التركيز من الناحية الرابعة فهو في عالمنا وواقعنا. يقول العلماء علماء النفس إن الإنسان عليه أن يتحكم في وقته وأن يمارس إدارته لوقته بشكل يومي وهنا يحتاج إلى التركيز وأن يبتعد عن كل ما يشتت تركيزه.

 

أخي الفاضل، أريدك من خلال الدقائق القليلة التالية أن تركز على بعض الأمور التي تشتت تركيز الإنسان وتضيع وقته. هل سمعت بسارقات الوقت؟ وقد أعطي لها مصطلحًا باللغة الإنجليزية Times stealers وما أكثرها في عصرنا الحديث. قضايا تكنولوجية كثيرة يفترض أنها تعيننا على إدارة وقتنا وتعيننا على التركيز، لكن نرى لها سلبيات وآثارًا سيئة جانبية بحيث أصبحت تسرق أوقاتنا.

 

وعلى رأس هذه الأجهزة يأتي البيجر فهو مشتت لتركيزنا، وبالتالي نصيحة للجميع أن يتفقوا مع الناس على رموز معينة أثناء استعمال البيجر حيث لا نرد إلا على الأرقام المهمة.

 

ثم الجوال كذلك فهو مشتت للتركيز، وبالتالي أنصح بالاشتراك في خدمة ما يعرف بالصوت الآلي Voice mail وذلك لغربلة المكالمات التي تأتي إليهم.

 

ثم الهاتف المنزلي، وأنصح باستعمال ما يُعرف بالنداء الآلي النداء التلقائي الذي يغربل المكالمات، وألا نجيب إلا على المكالمات الضرورية المهمة، وهو ما يعرف باللغة الإنجليزية بـAnswering machine.

 

ثم هناك شبكة الإنترنت التي تشتت التركيز لمن يدمن عليها، أما الذي يستعملها بطرق سليمة فإنها لا تشتت تركيزه. هل تعلم أن هناك من يدمن على استعمال الإنترنت لتصبح عدد ساعاته في اليوم والليلة وهو يستعمل شبكة الإنترنت إلى 16 ساعة فهذا مدمن ينبغي أن يعي أن الإنترنت تشتت تركيزه.

 

ثم بعد ذلك التلفزيون فهو كذلك مشتت للتركيز، وعلينا أن نضبط أنفسنا في استعمال هذا الجهاز. فالعبرة -أخي- أن هذه الأجهزة التكنولوجية قد اخترعت حتى تساعدنا على التركيز ولم تخترع حتى تشتت تركيزنا.

 

أخي الفاضل، قمنا من خلال هذه الاستشارة بتغطية أربعة جوانب للتركيز لأهمية التركيز في مضاعفة القدرات.

 

وأخيرًا، عليك -أخي- بالرياضة، فالرياضة تعين الإنسان على التركيز, والصحة والعافية تعين الإنسان على التركيز، ولا تنس الدعاء لله دائمًا، ونقول "اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وشفاء من كل داء". فمثل هذه الأدعية تعين الإنسان كذلك على التركيز ونتمنى أن تنطبق هذه الأدعية علينا وأن نعيش في حياة ملؤها الصحة والعافية.