كيف يستوعب عقل «المهندس» نعيم القبر وعذابه؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الغيبيات
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 37
  • رقم الاستشارة : 3515
11/12/2025

أنا مهندس، وعقلي الهندسي يحاول دائمًا تحليل الأمور. أفكر في الموتى الذين تحللت أجسادهم أو حُرقوا ونثر رمادهم، كيف يقع عليهم عذاب القبر أو نعيمه؟  هل هو حالة شعورية للروح كالحلم، أم حقيقة مادية؟  وهل التفكير في «الكيفية» يعتبر بدعة أو ضعف إيمان؟  أحتاج توضيحًا يقرب الصورة لعقلي.

الإجابة 11/12/2025

مرحبًا بك أخي الكريم، وأشكر لك تواصلك معنا، وأقدِّر ثقتك التي أوليتنا إياها لطرح ما يجول في خاطرك من تساؤلات. فمن دواعي سرورنا أن نتلقى أسئلة من عقلية منظمة تبحث عن الحقيقة، أسأل الله العلي القدير أن يشرح صدرك، وينير بصيرتك، ويزيدك إيمانًا ويقينًا، وأن يجعل علمك الدنيوي عونًا لك على فهم حقائق الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وبعد...

 

هل السؤال عن «الكيفية» بدعة أو ضعف إيمان؟

 

دعني أبدأ من الشق الأخير لسؤالك لطمأنتك. إن العقل الهندسي والتحليلي هو نعمة من الله، والبحث عن (كيف) ليس دائمًا تشكيكًا؛ بل قد يكون بحثًا عن طمأنينة القلب وتثبيت الإيمان.

 

لقد سأل من هو خير منا، خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- ربه عن الكيفية، لا شكًّا في القدرة، ولكن طلبًا لليقين. قال الله –تعالى- في كتابه العزيز: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260].

 

لاحظ هنا أن الله لم يؤاخذه؛ بل أجابه بتجربة عملية حسية (قصة ذبح وتفريق الطيور الأربعة). لذا، تساؤلك ليس ضعف إيمان؛ بل هو شغف المعرفة ومحاولة «نمذجة» الغيب ليقبله العقل الذي تعوَّد على المحسوسات، وهذا مدخل شرعي للعلم ما دام الهدف هو اليقين لا التعنت.

 

معادلة القبر والجسد المتحلل

 

أنت بوصفك مهندسًا تعلم أن «المادة لا تفنى» (بمفهوم الفيزياء) بل تتحول من صورة لأخرى. المشكلة التي تواجه عقلك هي ربط العذاب -أو النعيم- بالحيز المكاني (الحفرة) والجسد البيولوجي (الجثة).

في الشرع، مصطلح «عذاب القبر» يشير إلى مرحلة «البرزخ»، وهي الحياة الفاصلة بين الدنيا والآخرة. القبر هنا ليس مجرد الحفرة الترابية، بل هو «المقام» الذي تكون فيه الروح بعد الموت، سواء كان الجسد في حفرة، أو في بطن حوت، أو ذرات رماد منثورة في الهواء.

 

مثال لتقريب الصورة لعقلك الهندسي: تخيل أن لديك شريحة بيانات SIM Card)) وجهاز هاتف. إذا تحطم الهاتف (الجسد) تمامًا، هل تنتهي هوية الرقم أو البيانات المخزنة في الشبكة؟ لا. الاتصال والبرمجة الخاصة بهذا الرقم ما زالت موجودة في النظام الشبكي، ويمكن للنظام (الله ولله المثل الأعلى) أن يرسل إشارات (نعيم أو عذاب) لهذا المعرِّف أينما كانت ذراته.

 

وقد ورد في السُّنة قصة عجيبة لرجل فكَّر بطريقتك نفسها، وخاف من عذاب الله، فأوصى بنيه أن يحرقوه. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: «أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه به أحدًا، قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك، يا رب -أو قال مخافتك- فغفر له بذلك» [رواه مسلم].

 

الشاهد هنا: أن تشتت الذرات فيزيائيًّا لا يُعجز الخالق عن إعادة تجميعها أو إيقاع الحكم عليها. فالله الذي خلق الذرَّة والطاقة قادر على توجيه النعيم أو العذاب للروح وما تبقى من ذرات الجسد الأصلية بأي كيفية كانت.

 

هل هو «حلم» أم حقيقة مادية؟

 

هذا هو جوهر سؤالك: هل الأمر نفسي أم مادي؟

 

عقيدة أهل السنة والجماعة أن النعيم والعذاب يقعان على الروح والبدن معًا، ولكن بطريقة تختلف عن قوانين الفيزياء الدنيوية الحالية:

 

1- نظرية الأبعاد المختلفة:

 

أنت بوصفك مهندسًا تدرك أننا نعيش في أبعاد محددة. وعالم البرزخ له قوانين فيزيائية مختلفة. لنأخذ مثال النائم بجوارك: أنت تراه نائمًا هادئًا (فيزيائيًا)، لكنه في الحقيقة قد يكون يرى كابوسًا مرعبًا، يصرخ فيه، ويُضرب، ويتألم، وربما يستيقظ وهو يتصبب عرقًا وقلبه يخفق بشدة. الألم كان حقيقيًّا، والخوف كان حقيقيًّا، لكنه حدث في «بُعد» النوم الذي لا تراه أنت وأنت مستيقظ بجواره.

 

البرزخ أعظم وأشد، وهو حالة التقاء الروح بالجسد بطريقة برزخية لا نراها بالعين المجردة، ولكن الميت يشعر بها تمامًا.

 

2- الأدلة النصية:

 

النصوص تشير إلى واقعية العذاب والنعيم، وأنه ليس مجرد خيال.

 

قال تعالى عن آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]. فالعرض هنا يحدث قبل يوم القيامة (في البرزخ)، وهو عذاب حقيقي يدركونه.

 

وفي الحديث الصحيح: «إن العبد إذا وُضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم...» [متفق عليه]. فسماع قرع النعال دليل على وجود إدراك حسي يتجاوز مجرد الحلم المجرد.

 

كيف يستوعب العقل إعادة الإحياء؟

 

أنت كمهندس تعلم أنه لاستعادة نظام معقد، تحتاج إلى «الكود المصدري» Source Code)) والمواد الخام. والله -سبحانه وتعالى- تحدى العقل البشري الذي يستبعد إعادة الإحياء والخلق بعد التحلل. فقد جاء أحد المشركين للنبي ﷺ بعظم رميم (متحلل) ففتته بيده وقال: يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعد ما رمَّ؟ فأنزل الله –تعالى- آيات تخاطب العقل والمنطق: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 78 و79].

 

فالدليل الهندسي: (الذي أنشأها أول مرة). الصانع الذي ابتكر الآلة من العدم، أسهل عليه بمقاييس العقل إعادة تجميعها بعد تفككها.

 

وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: 27]. فكلمة «أهون» هنا لتقريب المعنى للعقول البشرية، وإلا فكل شيء على الله هين.

 

إذن، العذاب أو النعيم يصل للروح، وتتصل الروح بتلك الذرات المتحللة أو الرماد المنثور بطريقة تشبه «الاتصال اللاسلكي» المشفر الذي لا يخطئ هدفه، فتتألم الذرات وتتألم الروح، أو تنعم.

 

والخلاصة أخي العزيز:

 

عقلك الهندسي يبحث عن «الآلية» Mechanism))، والدين يقدم لك «الحقيقة» Truth)). وعالم الغيب لا يقاس بمسطرة عالم الشهادة، ومحاولة إخضاع عذاب القبر لقوانين المادة الأرضية كمحاولة قياس درجة الحرارة باستخدام مسطرة أطوال! إن الأدوات مختلفة يا عزيزي!

 

إن الجسد هو مجرد «واجهة مستخدم»، والروح هي «المشغِّل». في البرزخ، يتم تحديث الواجهة لتناسب المرحلة الجديدة، فلا يمنع تحلل الواجهة القديمة (الجسد الترابي) من استمرار النظام في العمل ومحاسبته.

ماذا أعددت لها؟

 

وأخيرًا أهمس لك يا أخي الكريم، وأشير إليك بحديث النبي ﷺ، وكل لبيب بالإشارة يفهم، وأحسبك لبيبًا: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: «مَتَى السَّاعَةُ؟» فَقَالَ ﷺ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» [رواه البخاري].

 

فهذا توجيه نبوي لتحويل الطاقة الذهنية من التفكير في «التوقيت والكيفية الغيبية» إلى «العمل والإنتاجية».

 

أسأل الله أن يملأ قلبك بنور اليقين، وأن يجعل قبرك وقبورنا روضة من رياض الجنة، وأن ينفع بعقلك وعلمك الإسلام والمسلمين.

 

روابط ذات صلة:

غفلةُ الإنسانيّة عن عالم البرزخ

حديث السُّنة عن أحداث الغيب

الرابط المختصر :