Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الغيبيات
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 59
  • رقم الاستشارة : 2012
20/05/2025

لماذا جعل الله الملائكة والجن غير مرئيين لنا، بينما سمح لهم بأن يرونا ويُشاهدوا تفاصيل حياتنا؟

نحن لا نراهم، ولا ندري متى يكونون حولنا، أو ما الذي يفعلونه. بينما هم قد يروننا في أدق خصوصياتنا.

وكيف يمكننا التوفيق بين هذا الأمر وبين أن الله أسجد الملائكة والجن لأبينا آدم عليه السلام؟ وكيف نربط هذا أيضًا بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ ؟

أين يكمن التكريم والتفضيل في أننا لا نرى من أُمروا بالسجود لأبينا، بينما هم يروننا؟ ألا يُعد هذا نوعًا من التفضيل لهم علينا من هذه الناحية؟

الإجابة 20/05/2025

مرحبًا بك أخي الكريم، وأشكرك على تواصلك معنا، وعلى سؤالك الطيب الذي يفتح بابًا من أبواب التفكر والتدبر والتأمل في خلق الله وفي حكمته تعالى وتدبيره، وأسأل الله أن يبارك فيك، وأن ينير بصيرتك وقلبك بنور الإيمان والعلم، ويشرح صدرك لِكل ما فيه خير وصلاح، وبعد...

 

فإن من عظمة الله تعالى وحكمته البالغة، أنه لم يكشف لنا كل أسرار خلقه، بل جعل من الكون كتابًا مفتوحًا يقرؤه العاقل بقلبه وبصيرته، وفي الوقت نفسه، أبقى بعض الأمور غيبًا عنا لحِكَم عظيمة لا يعلمها إلا هو سبحانه. وهذه الحكمة تظهر جليًا في قضية وجود الملائكة والجن، والكيفية التي يتفاعلون بها مع عالمنا. فالعين البشرية محدودة، والإدراك البشري قاصر، ولو كُشفت لنا كل الحجب، لما استطعنا العيش في هذا العالم، ولما تمكنا من أداء مهمتنا التي خلقنا الله من أجلها.

 

وكذلك، فإن الإيمان بالغيب هو ركن أساسي من أركان الإيمان، وهو ما يميز المؤمن عن غيره، فالذي يؤمن بما لا يراه، هو الذي يزداد يقينًا بحكمة الخالق وعظمته.

 

لماذا يرانا الملائكة والجن ونحن لا نراهم؟

 

إننا إذا تأملنا وتفكرنا في هذا الأمر لوجدنا خلفه أسبابًا في غاية الحكمة، تتفق مع العقل السليم والمنطق القويم، ومنها:

 

1- اختبار للإيمان بالغيب:

 

فإن من أعظم حكم إخفاء الملائكة والجن عنا هو ابتلاء وتمحيص لإيماننا. فالله -سبحانه وتعالى- يريد منا أن نصدق بوجود الغيب الذي لم تره أعيننا، وهذا هو جوهر الإيمان الحق. فلو كنا نراهم لكان الإيمان بهم أمرًا حسيًّا لا يحتاج إلى جهد قلبي أو تسليم عقلي، ولَفُقدت بذلك قيمة الإيمان بالغيب الذي أثنى الله على أهله بقوله: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة: 2 و3].

 

2- رحمة بنا وحفاظًا على عقولنا:

 

تصور -يا أخي- لو أننا كنا نرى الملائكة والجن بأعدادهم الهائلة، وبأشكالهم التي لا نعلمها! هل تتخيل حجم الهول والخوف الذي سيصيبنا؟ إن الملائكة كائنات نورانية عظيمة، والجن منهم الصالح والطالح، ولو تجلى لنا هذا العالم بكامل تفاصيله، لما استطعنا العيش حياة طبيعية، ولأُصيبت عقولنا بالجنون. إن عدم رؤيتنا لهم هو رحمة عظيمة بنا، وحفاظ على سلامتنا النفسية والعقلية.

 

3- ابتلاء يترتب عليه الجزاء:

 

فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويوسوس له، ويزين له الشر. لو كنا نراه، لتغيرت طبيعة هذا الاختبار والابتلاء تمامًا. ولكن الحكمة في عدم رؤيتنا له، أن نعتمد على الله وحده، ونستعيذ به من شر الشيطان وحزبه، ونلجأ إليه بالذكر والدعاء. قال تعالى عن إبليس وقبيله: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 27]. فهذه القدرة التي لديهم هي جزء من طبيعة خلقهم، وهي اختبار لنا، لِنرى من يتبع هدى الله ومن يتبع خطوات الشيطان.

 

4- ارتباط القدرات بالمسؤوليات:

 

إن الملائكة والجن لهم وظائف ومهام محددة في هذا الكون. فالملائكة هم من جُند الله، ينفذون أوامره، ويسجلون أعمال البشر، ويحملون العرش، ويستغفرون للمؤمنين. والجن منهم الصالح ومنهم الطالح، وهم مكلفون ومحاسبون. رؤيتهم لنا تمكنهم من أداء مهامهم. فالملائكة الكرام الكاتبون -مثلًا- أعطوا هذه القدرة لأنهم مسؤولون عن تسجيل كل ما نفعله ونقوله، وهذا يزيد من إحساسنا بالمسؤولية، ويجعلنا أكثر حرصًا على أعمالنا وأقوالنا، حتى وإن لم نرهم، فالعلم بوجودهم هو وحده كافٍ لِتحقيق هذه الغاية. قال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: 10-12].

 

أما الإنسان فهو كائن مُكلَّف، ومُخيَّر، ومسؤول عن أعماله، وله القدرة على اختيار الخير والشر.

 

5- اختلاف طبيعة الخلق:

 

إن الله خلق كل مخلوق بِطبيعة خاصة تختلف عن غيره. فالعين البشرية لها ترددات معينة ترى بها، والأذن البشرية لها ترددات معينة تسمع بها. إن عدم رؤيتنا لهم ليس نقصًا فينا، بل هو اختلاف في طبيعة الخلق.

 

كيف نوفق بين هذا وبين سجودهم لأبينا؟

 

لا يوجد أي تعارض بين كوننا لا نراهم وبين أمر الله لهم بالسجود لأبينا آدم عليه السلام؛ للأسباب التالية:

 

1- السجود كان بسبب عَظَمة خلق آدم:

 

إنَّ أَمْر الله الملائكة والجن بالسجود لآدم كان لِتفضيل الله لآدم بالعلم، وبِخلقه بيديه، وِنفخه فيه من روحه، وجعله خليفة في الأرض. وهذا التكريم لم يكن مشروطًا بالرؤية المتبادل، وإنما كان اعترافًا منهم بِمرتبته وعظمة خلقه. إنه ترسيخ من الله لتفضيل الإنسان على كثير من خلقه، وهذا التفضيل لا يقتصر على الحواس الظاهرة، بل يشمل العقل والإدراك والقدرة على التكليف والعبادة.

 

2- طاعة الملائكة المطلقة لأمر الله:

 

الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. عندما أمرهم الله بالسجود لآدم، لم يتوقفوا لِيسألوا –كما فعل إبليس لعنه الله- بل سجدوا فورًا طاعة لأمر ربهم. وهذا دليل على كمال طاعتهم، ويقينهم بحكمة الله المطلقة.

 

أما عن سؤالك حول كيف نربط هذا بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]، فإن التكريم والتفضيل ليس محصورًا في قضية الرؤية من عدمها، بل هو أوسع وأشمل من ذلك بكثير:

 

1- التكريم في القدرة على العلم والمعرفة:

 

أول مظاهر التكريم لآدم وذريته هو أن الله علَّم آدم الأسماء كلها، وهذا دليل على أن العقل البشري مُزود بقدرة فريدة على اكتساب العلم والمعرفة، وهذا لم يُعطَ لِغيره من المخلوقات. فالملائكة -على جلال قدرهم- عندما سألهم الله عن أسماء الأشياء قالوا: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32]. وهذا يدل على أن آدم امتاز عنهم بِهذه الميزة العظيمة، وهي القدرة على العلم والاكتشاف والتطور.

 

2- التكريم بالاستخلاف في الأرض:

 

فالله قد استخلف الإنسان في الأرض، وهذا من أعظم مظاهر التكريم. فالله جعل الإنسان سيدًا على هذه الأرض، ومكلَّفًا بعمارتها وإصلاحها. قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]. هذه الخلافة تتطلب عقلًا مدبرًا، وقلبًا مؤمنًا، وقدرة على الاختيار والابتكار، وهي صفات خُص بها الإنسان.

 

3- التكريم في الاختيار والمسؤولية:

 

الإنسان مُخير بين الخير والشر، وهذا يجعله مسؤولًا عن أفعاله، ومكلفًا بأداء العبادات والطاعات. هذه المسؤولية هي شرف عظيم، ومظهر من مظاهر التكريم، لأنها ترفع من قدر الإنسان إذا أحسن الاختيار وعمل الصالحات. أما الملائكة فليس لديهم حرية الاختيار، فهم لا يعصون الله. والجن لديهم حرية الاختيار، ولكن قدرة الإنسان على الصعود إلى أعلى الدرجات بالإيمان والعمل الصالح تجعله مميزًا.

 

4- التكريم في النعم الظاهرة والباطنة:

 

الآية الكريمة تذكر بوضوح: ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾. هذا تكريم حسي ظاهر، فالله سخر للإنسان كل ما في الكون من وسائل النقل والغذاء والرزق الطيب. وهذا لا يشمل فقط الرزق المادي، بل يشمل أيضًا نعم العقل والفكر، واللغة، والاجتماع، والأسرة، والمودة والرحمة، وكلها تزيد من تكريم الإنسان.

 

5- التفضيل ليس في الحواس الظاهرة فقط:

 

إن التفضيل في الآية الكريمة لا يعني أن الإنسان أفضل من كل المخلوقات في كل صفة، بل هو تفضيل عام وشامل في مجمل الخصائص التي مُنحها. فالملائكة لهم صفات عظيمة لا يمتلكها البشر، مثل القدرة على التحول، والسرعة، والخلق النوراني، ولكن تفضيل بني آدم يكمن في كمال الخلق البشري، وِكونه مجمعًا لِصفات العقل والروح والجسد، وِقدرته على الارتقاء إلى أعلى الدرجات.

 

وكون الملائكة والجن يروننا ونحن لا نراهم لا يقلل من تكريمنا، بل قد يكون جزءًا من التكليف الذي وُكِّلوا به، أو جزءًا من حكمة الله في نظام الكون.

 

فإياك أن يوسوس لك الشيطان بِأن عدم رؤيتنا لهم هو نقص في حقنا أو تفضيل لهم! بل على العكس تمامًا، هذا يرفع من قدرنا ويُعلي من شأننا.

 

وختامًا أخي العزيز، إن التكريم الذي خص به الله بني آدم إنما هو تكريم شامل يمس جوهر وجودنا، وعقولنا، وأرواحنا، وقدرتنا على الخلافة في الأرض، وقربنا من الله بالإيمان والعمل الصالح.

 

فالحمد لله الذي أكرمنا، وفضَّلنا، وجعلنا من أمة محمد - ﷺ- الذين يؤمنون بالغيب ويسلِّمون لأمر الله.

 

نسأل الله أن يرزقنا وإياك اليقين التام، والبصيرة النافذة، وأن يثبت قلوبنا على دينه، وأن يجعلنا من عباده الصالحين الذين يتدبرون آياته ويخشونه حق خشيته.

الرابط المختصر :

icon الاستشارات ذات الصلة