الإستشارة - المستشار : د. رجب أبو مليح محمد
- القسم : العادات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
133 - رقم الاستشارة : 3430
03/12/2025
فضيلة الأستاذ الدكتور/ رجب أبو مليح حفظكم الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد… أرفع إلى فضيلتكم هذه المسألة الفقهية المتعلّقة بموضوع التحنيك عند المواليد، راجيًا منكم بيان الحكم الشرعي والتكييف الفقهي لها، مع مراعاة الجوانب الطبية والصحية المعاصرة. السؤال: ورد في السنة النبوية ذكر التحنيك للمولود، وأنه كان يُفعل على يد النبي ﷺ، وأن بعض الصحابة والتابعين عملوا به بعده. ونحن نرجو من فضيلتكم بيان الأمور الآتية:
1. ما هو التحنيك في الشريعة الإسلامية؟ وما المقصود به من حيث الاصطلاح الشرعي؟ وهل هو سنة مؤكدة أم مستحبّة أم مجرد فعل فعله النبي ﷺ من باب الإكرام للمواليد؟
2. كيفية التحنيك الواردة في السنة: هل المقصود بالتحنيك أن يقوم الشخص بــمضغ التمرة بفمه حتى تَرِقّ ثم يضع شيئًا منها في فم المولود؟ وهل يوجد في المصادر الفقهية ما يدل على وجوب وجود اللعاب، أو أن المقصود إيصال الطعم فقط دون اشتراط لعاب المُحنِّك؟
3. من هو الأهل للقيام بالتحنيك؟ هل يُشترط أن يكون المُحنِّك عالِمًا أو صاحب بركة أو من أهل الصلاح؟ أم يجوز لأي شخص صالح أو قريب القيام بهذه السنة دون اشتراط علم أو منزلة معيّنة؟
4. مسألة صحية معاصرة: وقعت حادثة بين امرأتين: حيث قامت إحدى النساء بمضغ التمرة في فمها استعدادًا لتحنيك مولودة صديقة لها، فاعترضت أمّ المولودة ومنعتها، خوفًا من نقل الأمراض المعدية عبر اللعاب، مثل الفطريات، والفيروسات الفموية، أو التهاب الكبد ونحوها. فنسأل فضيلتكم: هل يُعد هذا الخوف معتبرًا شرعًا؟ وهل يُشترط شرعًا سلامة المُحنِّك من الأمراض؟ وهل يمكن أن يكون التحنيك بطريقة أخرى خالية من نقل اللعاب، كهرس التمرة باليد أو الأدوات دون مضغ، مع بقاء السنة محققة؟
5. مدى اعتداد الفقهاء بمسألة انتقال المرض: هل ترى الشريعة أن وجود احتمال قوي لنقل العدوى يجعل الفعل مكروهًا أو ممنوعًا؟ وهل تدخل هذه المسألة تحت قاعدة: “لا ضرر ولا ضرار” أو تحت قاعدة سدّ الذرائع إذا ترتب على التحنيك احتمال ضرر على المولود؟
6. هل يختلف الحكم في زماننا عمّا كان عليه في زمن النبي ﷺ؟ بمعنى: هل تسمح القواعد الأصولية والفقهية باعتبار المعطيات الطبية الحديثة لتغيير كيفية تطبيق السنة دون إلغائها؟
نرجو من فضيلتكم بيان الحكم الشرعي التفصيلي، وتحديد الراجح في هذه المسألة، وذكر أدلة العلماء إن تيسر، ليتضح للمسلمين كيفية تطبيق هذه السنة في ضوء المقاصد الشرعية وحفظ النفس. والله يحفظكم ويرعاكم.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فنشكر لك أخي الكريم هذا السؤال الواعي الجامع، وإن كان ما سألت عنه يحتاج إلى بحث فقهي مقاصدي طبي، لكنه ينم عن فهم عميق، وإحاطة طيبة، نجتهد في الإجابة عن كل جزئياته في هذه الأسطر القليلة، ونحيلك إلى كتب الفقه وهي زاخرة عامرة بالأحكام الفقهية والمقاصدية.
التحنيك سنة مستحبة
والتحنيك سنة مستحبة، وفيه خير وبركة واتباع للنبي ﷺ والمقصد منه ليس لعاب المحنِّك (بعد النبي ﷺ)، بل إيصال خلاصة التمر الحلوة إلى فم المولود. والخوف من انتقال الأمراض عبر اللعاب هو خوفٌ حقيقي ومعتبر شرعًا، ومنعُه من باب الأخذ بالحيطة وحفظ النفس. والراجح والأسلم في زماننا هو تطبيق سنة التحنيك دون استخدام الفم والمضغ المباشر، وذلك بهرس التمرة وتليينها بأي وسيلة أخرى نظيفة وآمنة، ثم تحنيك المولود بها.
وبهذه الطريقة، نجمع بين فضيلتين عظيمتين: فضيلة اتباع السنة، وفضيلة حفظ النفس وتجنب الضرر، وهذا هو كمال الفقه والتطبيق، ومن حق الأخت الكريمة منع قريبتها أو صديقتها من هذا التصرف، لكن ينبغي أن تتلطف في تعريفها، وعدم صدها، فالرفق لا يوضع في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه.
وإليك التفصيل بعد هذا الإجمال:
التحنيك لغةً واصطلاحًا
التحنيك لغةً: من "الحَنَك"، وهو سقف الفم من الداخل. والتحنيك هو تدليك حنك الصبي بذلك. واصطلاحًا: هو مضغ تمرة أو نحوها من الأشياء الحلوة، ثم دلك حنك المولود بها بوضع شيء يسير من الممضوغ على إصبع المحنِّك وإدخاله في فم المولود وتمريره على حنكه الأعلى بلطف.
حكمه الشرعي: التحنيك سنة مستحبة باتفاق المذاهب الأربعة، وليس سنة مؤكدة تصل لدرجة الإلزام أو الإثم بتركها، وليس مجرد فعل إكرام عابر.
وثبوته وفعل النبي ﷺ له والصحابة من بعده يدل على سنيته واستحبابه، والدليل على ذلك الحكم : ما رواه أبو موسى – رضي الله عنه- قال: "وُلِدَ لِي غُلاَمٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَدَفَعَهُ إِلَيَّ" (متفق عليه).
وروت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها حملت بعبد الله بن الزبير، قالت: "... فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ" (متفق عليه).
كيفية التحنيك وهل يُشترط اللعاب؟
الكيفية الواردة في السنة: هي كما جاء في حديثي أبي موسى وأسماء: أن يقوم المحنِّك بمضغ التمرة بفمه حتى تلين وتصبح سهلة، ثم يأخذ جزءًا يسيرًا منها على طرف إصبعه النظيفة ويدلك به حنك المولود يميناً وشمالاً برفق.
هل اللعاب مقصود وشرط؟ هنا تفصيل دقيق عند العلماء: فـ ريق النبي ﷺ حالة خاصة: لا شك أن ريق النبي ﷺ كان مقصودًا لذاته للتبرك به، فهو شفاء وبركة. وريق غير النبي ﷺ: المقصد الأصلي من التحنيك ليس التبرك بريق الشخص المحنِّك، بل له مقاصد أخرى أهمها:
أ. اتباع السنة: فعل ما فعله النبي ﷺ طاعة وقربة.
ب. فتح فم المولود وإيصال الحلاوة: لتقوية عضلات الفم واللسان، وتهيئته لعملية المص والرضاعة.
ج. التفاؤل: أن يكون أول ما يدخل جوف المولود شيئًا حلوًا (التمر)، لما فيه من رمزية للإيمان والحلاوة في الحياة. وعليه، فإن اللعاب ليس شرطًا أساسيًّا لتحقيق أصل السنة بعد النبي ﷺ. المضغ كان الوسيلة المتاحة والأسهل لتليين التمرة في ذلك الزمان، واللعاب هو أثر طبيعي لهذه الوسيلة. المقصود هو إيصال خلاصة التمر المهروس واللّين إلى حنك المولود، وليس إيصال لعاب شخص بعينه.
من هو الأهل للقيام بالتحنيك؟
يُستحب أن يقوم بالتحنيك رجل من أهل الصلاح والتقوى والعلم والفضل، تفاؤلاً بأن يكون المولود مثله، ولأن دعاءه أرجى للقبول. هذا ما فعله الصحابة مع النبي ﷺ. لكن هل هذا شرط؟ الجواب: لا. فلو لم يوجد رجل صالح، فيمكن للمرأة الصالحة أن تقوم به. وإن لم يوجد، فيمكن للأب أو أي قريب صالح أن يفعل ذلك. فالأمر فيه سعة، والاشتراط يضيق ما وسعه الشرع. الأولوية لأهل الفضل والصلاح من باب الاستحباب والتفاؤل، ولكن يجوز لغيرهم القيام به، وتتحقق السنة بذلك إن شاء الله.
الخوف من نقل الأمراض هل هو معتبر شرعًا؟
نعم، هذا الخوف معتبر شرعًا وبقوة. الشريعة الإسلامية مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد. وحفظ النفس والصحة من أعظم مقاصدها.
واعتراض أم المولودة ومنعها للمرأة الأخرى من تحنيك ابنتها بهذه الطريقة هو تصرف سليم وحكيم، ويتوافق تمامًا مع مقاصد الشرع، لكن كان يجب عليها أن تتلطف في تبيين الحكم الشرعي، والفظاظة والغلظة ليست من الإسلام في شيئ يقول الله تعالى : ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]
هل يُشترط سلامة المُحنِّك من الأمراض؟
نعم، يُشترط ذلك عقلاً وشرعًا. لا يجوز لشخص يعلم أو يغلب على ظنه أنه مصاب بمرض معدٍ (حتى لو كان مجرد فطريات فموية) أن يقوم بالتحنيك بطريقة تنقل لعابه إلى مولود ضعيف المناعة. ويمكن التحنيك بطريقة أخرى وهذا هو فقه الواقع. يمكن تحقيق مقصود السنة بالتحنيك دون تعريض المولود للخطر، وذلك عبر وسائل بديلة كما يفعل كثير من الناس الآن كأن يلين التمرة بما زمزم إن وجد أو بأي ماء نظيف، أو أن تكون التمرة لينة بطبعة الحال.
مدى اعتداد الفقهاء بمسألة العدوى والقواعد الفقهية
الشريعة تعتد تمامًا بمسألة انتقال المرض، والأدلة على ذلك كثيرة: منها قول النبي ﷺ في الطاعون: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" (متفق عليه). وهذا أصل عظيم في الحجر الصحي ومنع انتشار العدوى. ومنها قوله ﷺ: "لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ" (متفق عليه). أي لا يخلط صاحب الإبل المريضة إبله مع الإبل السليمة. هذه المسألة تدخل مباشرة تحت قاعدتين فقهيتين عظيمتين:
1- قاعدة "لا ضرر ولا ضرار": تعريض مولود حديث الولادة لمصدر عدوى محتمل هو ضرر واضح، والقاعدة تقتضي إزالة هذا الضرر ومنعه.
2. قاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح": مصلحة تطبيق السنة بالتحنيك مصلحة مستحبة، ومفسدة إيذاء المولود وإصابته بالمرض مفسدة محرمة. والقاعدة تقول إن دفع المفسدة (الضرر) أولى من جلب المصلحة (الاستحباب)، خاصة إذا أمكن تحقيق المصلحة بطريقة أخرى لا مفسدة فيها.
هل يختلف الحكم في زماننا؟
الحكم الأصلي (استحباب التحنيك) لا يتغير، ولكن كيفية تطبيقه يمكن أن تتغير وتتكيف. هذا من مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان. القواعد الأصولية تسمح بذلك تمامًا والوسائل لها أحكام المقاصد. وسيلة المضغ بالفم في زمن النبي ﷺ كانت وسيلة نظيفة وآمنة في الغالب، وتحقق المقصد. إذا أصبحت هذه الوسيلة في زماننا محفوفة بالمخاطر الطبية المعروفة، فإننا نغير الوسيلة إلى وسيلة أخرى آمنة كما يفعل كثير من الناس الآن من تليين التمر بماء زمزم، أو أن يكون التمر لينا بطبيعة الحال، أو غير ذلك من الوسائل الآمنة.
والله تعالى أعلى وأعلم
روابط ذات صلة:
كيف تعامل المسلمون مع الأوبئة وآثارها في مراحل تاريخهم؟