الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكر معاصر
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
85 - رقم الاستشارة : 3231
08/11/2025
هل تناول الفكر الإسلامي مفهوم الاغتراب وتحدث عنه العلماء والفلاسفة المسلمون أم أن هذا المفهوم هو نتاج حديث للحداثة الغربية؟
أخي الكريم، في البداية أشكركم على هذا السؤال؛ لأنه يعيد انفتاحنا على تراثنا، فالكثير مما في التراث قد يكون له فائدة في حياتنا، ليس في النتيجة التي وصلوا إليها، ولكن في المنهجيات التي اتبعوها، وكذلك الإدراك الكلي للأفكار حيث كان العلماء المسلمون ينظرون للكون نظرة كلية يستحضرون فيها البعد الغيبي والكوني والأخروي، وكذلك كانت الأفكار ذات طبيعة إصلاحية ذات بُعد تزكوي وعمراني.
أما بالنسبة لسؤالكم فالفكر الإسلامي تعرض لمفهوم الاغتراب، ولكن وفق خصوصيته الثقافية والفكرية، ورؤيته الكلية الوجودية الإصلاحية، وهذا أنتج رؤية إيجابية للاغتراب، فلم ينظروا للاغتراب كأزمة يجب إيجاد حلول لها، ولكن نظروا إليه كنموذج لقلةٍ صالحةٍ ذات رؤية إصلاحية تغييرية وسط محيط لا يتفق معها.
الغرباء.. أزليــــون
الغرباء كانوا موجودين في التاريخ وسيظلون موجودين، فهم كما قيل "أزليون من قديم.. وسيظلون في المستقبل؛ لأنهم أزليون".
ولعل البداية لمفهوم الغرباء هو ما نص عليه الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم، وورد بعدة رويات كلها تتفق في معان إيجابية هي: صلاح هؤلاء الغرباء وقِلتهم وكذلك دورهم الإصلاحي، وعدم تأثرهم بمحيطهم الكثيف وغير الجيد، يقول النبي ﷺ: "بدأ الإسلامُ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأ فطُوبِى للغرباءِ" قيل: ومن الغرباء يا رسول الله، فقال ﷺ: "الذين يصلحون إذا فسد الناسُ"، وفي لفظٍ آخرَ قال: "هم الذين يُصلِحون ما أفسد الناسُ من سنتي".
وعلى هذا النهج النبوي، كان التأسيس لمفهوم الغرباء بأنهم أشبه بالنخبة الصالحة المُصلحة الساعية لتغيير مجتمعها، وليس الغرباء هم الفئة المأزومة التي تعاني التوتر والقلق والهواجس وتكون عرضة الاكتئاب والمعاناة، ولهذا علّق "ابن عطاء الله السكندري" على الحديث بقوله: "فاعلم أن الغربة المذكورة فى الحديث معناها قلة من يعين على القيام بالحق، فيكون القائم به غريبًا".
وقد عرّفه "أبو إسماعيل الهروي" وهو من علماء الحنابلة المتصوفين، وكان في القرن الخامس الهجري، وهو صاحب كتاب "منازل السائرين"، حيث يقول عن الاغتراب "أمر يشار به إلى الانفراد على الأكفاء"، ومعنى هذا الكلام أن كل من انفرد بوصف جليل دون أبناء جنسه فإنه غريب بينهم، مغترب عنهم.
أشكال الاغتراب
نظر الفكر الإسلامي إلى الاغتراب وفق ثلاثة أشكال:
غربة الأجساد: وهي تعني الغربة عن الوطن والأهل، وهذه يشترك فيها عموم الناس على اختلافهم.
غربة الأفعال: وهي اختلاف أهل الصلاح والإصلاح والتقوى والعلم عن غيرهم من غير الأتقياء والعصاة والجاهلين والسلبيين، يقول "ابن القيم" في كتابه "مدراج السالكين: "فإياك أن تستوحش من الاغتراب والتفرد.. فإنه والله عين العزة، الصادق كلما وجد مس الاغتراب، وذاق حلاوته، وتنسّم روحه؛ قال: اللهم زدني اغترابًا، ووحشةً مِنَ العالَم، وأُنسًا بِك".
غربة ذوي الهمة: وهؤلاء الذين يشعرون أنهم غرباء في هذه الدنيا، وأن مستقرهم هناك في الآخرة حيث الجنة، والذي جاءوا منه ويشتاقون للعودة إليها، يقول أبو العباس المرسي: "الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا، العارف لا دنيا له لأن دنياه لآخرته وآخرته لربه".
وقد تحدث "ابن باجة الأندلسي" وهو فيلسوف أندلسي في القرن السادس الهجري، عن مفهوم جديد للاغتراب في كتابه "تدبير المتوحد" أسماه "النوابت" أو بتعبير عصرنا النخبة ويصفهم بأنهم غرباء وإن كانوا فى أوطانهم وبين أترابهم وجيرانهم؛ لأنهم سافروا بأفكارهم إلى مراتب أخرى صارت لهم أوطانًا.
أما أبو حيان التوحيدي فتحدث عن الغرباء وآلامهم وأفاض في الحديث عنهم، فيقول: "أغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه، وأبعد البعداء من كان قريبًا في محل قربه؛ لأن غاية المجهود أن يسلو عن الوجود، ويغمض عن المشهود ويُقصَى عن المعهود... يا رحمتا للغريب طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب... الغريب فى الجملة كله حرقة، وبعضه فرقة، دليله أسف... وخوفه وطن".
أما المفكر "علي شريعتي" فرأى أن الاغتراب هو الخضوع للتقليد بما يؤدي إلى تضييع الذات، وتحدث عن ذلك في كتابه "الذات الثورية"، متناولاً نوعين من التقليد يحققان الاغتراب أولهما تقليد الموروث والثاني تقليد القوى المعاصرة ذات الهيمنة والسيطرة.
يقول عن التقليد الأول: "وأعظم مصائب الاغتراب عن الذات عند مفكر ما هو التقليد، والتقليد يعني أن يسجن المرء نفسه في أطر حددت في غيبة منه".
ويقول عن التقليد الثاني: "يمكن أن تكون جاذبية التقليد لبعض الصيغ المسيطرة على العصر، أو القوى ذات الوزن الأعظم، أو القدرات الجبارة التي ركّزت سيطرتها على العصر قد نقلتك من سجن التقاليد إلى سجنها هي وأنت تحس أن تغير السجن هو الخلاص، في حين أنك انتقلت من نوع من الاغتراب إلى نوع آخر".
روابط ذات صلة:
من هم النوابت في الفكر الإسلامي؟
اغتراب الشباب لماذا أصبح أكثر انتشارًا؟
هل التعايش ضرورة اجتماعية وإنسانية؟