كيف أتعافى من إساءة قريبي وأتعامل مع ضغوط العفو؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الابتلاءات والمصائب
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 26
  • رقم الاستشارة : 3308
20/11/2025

منذ أكثر من خمس سنوات، تعرضتُ لإساءة شديدة وضرر نفسي بالغ من شخص قريب جدًّا، تضمَّن ظلمًا ماليًّا، وتشهيرًا. وقد أثَّر هذا الموقف تأثيرًا مُباشرًا على استقراري النفسي، وعلاقاتي الاجتماعية، ولا أزال حتى اليوم أعاني من نوبات اكتئاب، وصعوبة في بناء الثقة مع الآخرين، وأجد صعوبة بالغة جدًّا في نسيان الأمر أو تجاوز المشاعر السلبية المُصاحبة له.

لا أُطيق رؤية هذا الشخص ولا سماع اسمه، وأتجنب أي تجمعات عائلية يكون فيها، حفاظًا على سلامتي النفسية. وأسمع بشكل مُستمر من الأهل نصائح مُلحة وطلبات مُتكررة بالعفو والصفح، وأن ذلك خير لي وأفضل. لكنني أشعر بأنني عاجز تمامًا عن العفو، وأن مُحاولة الإكراه على التسامح تُسبب لي مزيدًا من الضغط النفسي والألم.

أرجو منكم النصح للخروج من هذه الحالة وتجاوز هذه المشاعر. وكيف أتعامل مع ضغوط الأهل هذه؟

الإجابة 20/11/2025

مرحبًا بك أخي الكريم، وأشكرك على ثقتك بنا، وأسأل الله العلي القدير أن يفرِّج همّك، ويشرح صدرك، ويجعل لك من كل ضيق مخرجًا، ويأجرك على صبرك واحتسابك خير الجزاء في الدنيا والآخرة، وبعد...

 

ألم الظلم وصعوبة التجاوز

 

أعلم جيدًا يا أخي حجم الألم والضرر النفسي الذي تحدثت عنه. فالظلم -خصوصًا إذا جاء من قريب- له وطأة شديدة على النفس، فهو ليس مجرد خسارة مادية أو ضرر في السمعة؛ بل هو شرخ عميق في الثقة والأمان النفسي. إن شعورك بعدم القدرة على النسيان أو العفو هو شعور إنساني طبيعي لمن مر بتجربة أليمة كهذه، فلا تظن أنك مقصر أو مخطئ في مشاعرك.

 

أخي الحبيب، إن رحلة التعافي من آثار الظلم رحلة صعبة وطويلة، تتطلب الصبر والتفهم والبحث عن التوازن بين الحق الشرعي في الدفاع عن النفس والحاجة النفسية للسلام الداخلي.

 

كيف تخرج من هذه الحالة:

 

إن تجاوز هذا الألم يتطلب منك خطوات شرعية إيمانية، وخطوات نفسية عملية:

 

أولًا- الخطوات الشرعية الإيمانية

 

1- اليقين بنصرة الله للمظلوم:

إن أكثر ما يُخفف عن المظلوم هو يقينه التام بأن الله معه ولن يضيعه. إن الظلم لا يمر هونًا في ميزان العدل الإلهي. لقد أقسم الله بعزته وجلاله أن ينصر المظلوم. يقول النبي: «اتَّقُوا دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّهَا تُحْمَلُ علَى الغَمَامِ، يقولُ اللَّهُ: وعِزَّتي وجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكِ ولو بَعْدَ حِينٍ» [رواه الترمذي].

 

إن هذا الحديث يُعدُّ بلسمًا لقلب المظلوم، فهو يطمئنك بأن حقك محفوظ عند من لا تضيع عنده الودائع، حتى لو تأخر النصر في الدنيا، فثوابه الأعظم في الآخرة لا يزول.

 

2- تحويل الألم إلى أجر:

 

إن ما أصابك من ضرر نفسي واكتئاب، إذا احتسبته عند الله، تحوِّل إلى درجات ورفعٍ للمنزلة وتكفير للسيئات. يقول الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].

 

تذكر أن كل دمعة ألم، وكل شعور بضيق، وكل ليلة قلق بسبب هذا الظلم، تُكتب لك أجرًا عظيمًا إن صبرت واحتسبت. فبدلًا من أن تكون هذه المشاعر عبئًا عليك، اجعلها تثقل ميزانك عند الله باحتسابها عنده جل وعلا.

 

3- الاعتصام بالدعاء:

 

لا تتوقف عن الدعاء برفع الظلم عنك وكفايتك شرّ الظالم؛ لكن اجعل تركيزك على راحة نفسك وسلامة قلبك أكثر من التركيز على الانتقام أو الضرر المباشر للظالم.

 

ثانيًا- الخطوات النفسية العملية

 

1- الاعتراف بالمشاعر وتفريغها:

 

لا تُحارب مشاعر الغضب أو الحزن أو الخذلان؛ بل اعترف بها. قل لنفسك: «نعم، أنا غاضب ومجروح ومُكتئب بسبب ما حدث، وهذا حقي». لا تدع الأهل أو المجتمع يضغطون عليك لتجاوز هذه المشاعر قبل أن تعيشها وتفهمها.

 

2- التركيز على الحاضر:

 

إن الظلم الذي تعرضت له هو فعل حدث في الماضي، وأنت الآن تستنزف طاقتك النفسية في الماضي. إن استعادة السيطرة تكون بتركيزك على ما تملكه الآن: حياتك الحالية ومستقبلك.

 

فإذا كان الظلم قد أثر على علاقاتك وثقتك، فابدأ بخطوات صغيرة وبطيئة لاستعادة الثقة مع أشخاص جدد لا علاقة لهم بالظالم.

 

2- إقامة الحدود الوقائية:

 

إن تجنبك لهذا الشخص وتجنب التجمعات التي يكون فيها هو تصرف حكيم ومهم لحماية سلامتك النفسية، وهذا ليس هروبًا؛ بل هو وضع حدود صحية. فسلامتك النفسية لا تقل أهمية عن سلامتك الجسدية، ولا يجب أن يُجبرك أحد على التنازل عن هذه الحدود.

 

3- طلب المساعدة المتخصصة:

 

ذكرتَ أنك تعاني من نوبات اكتئاب وصعوبة في بناء الثقة. هذه أعراض تتطلب مراجعة طبيب نفسي أو معالج سلوكي بجانب الاستشارة الشرعية. لا تتردد في طلب المساعدة الطبية؛ فالنفس لها حقوق وتحتاج إلى علاج كما يحتاج الجسد.

 

كيف تتعامل مع ضغوط الأهل

 

إن ضغوط الأهل نابعة في الأغلب من حبهم لك ورغبتهم في رأب الصدع والحفاظ على الروابط العائلية، وتذكيرهم بالعفو هو ترديد لما يسمعونه عن فضل العفو في الإسلام؛ لكنهم قد يجهلون حجم الضرر الذي لحق بك. لذا أنصحك بالآتي:

 

1- بيان الموقف:

 

تحدث معهم بهدوء وحسم، موضحًا أنك تتفهم دوافعهم وتُقدر حبهم، لكنك غير قادر على العفو الآن.

 

يمكنك أن تقول لهم: «أنا أعلم فضل العفو وأسعى إليه، ولكن العفو لا يكون بالإكراه. إنني الآن في مرحلة التعافي، ومحاولة إجباري على رؤية هذا الشخص أو مسامحته تزيد من ألمي وتؤخر شفائي. أرجو منكم مساعدتي في الشفاء أولًا، بدلًا من الضغط عليَّ».

 

2- الفصل بين حق الظالم وحاجتك النفسية:

 

اشرح لهم أن المسألة ليست في إغلاق باب الصلح؛ بل في التوقيت. إن العفو الحقيقي يكون عن قدرة واقتناع، وليس عن ضعف أو إكراه. ما دمت غير قادر نفسيًا الآن، فالعفو استجابة للضغوط قد يؤدي إلى مزيد من النكسات النفسية.

 

3- بيان الفهم الشرعي الصحيح للعفو:

 

وضح لهم أن العفو والصفح لهما فضل عظيم في ديننا، نعم، ولكن الدين لم يُكره المظلوم على العفو، بل أعطاه الحق في القصاص وفي الدفاع عن نفسه، ثم رغَّبه في العفو. يقول الله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40].

 

فالجزاء بالمثل هو الحق والعدل المشروع. أما العفو فهو اختيار وفضيلة، وليس فرضًا على المظلوم المتضرر نفسيًا.

 

كما أن العفو يكون عندما لا تُخشى منه مفسدة، فإذا كان العفو سيؤدي إلى تمادي الظالم في ظلمه، أو إلى نكسة نفسية للمظلوم، فليس هو العفو الذي يُثاب عليه صاحبه. فالحفاظ على النفس من الضرر هو مقصد شرعي.

 

4- وضع حد للنقاش:

 

إذا استمر الأهل في الضغط بعد ذلك كله، فأوقف النقاش معهم بلطف ولكن بحزم، فلتقل مثلًا: «يا أحبابي، أنا أحبكم وأُقدر رأيكم، ولكن هذا الموضوع يُؤلمني جدًّا، ولن نتحدث فيه مرة أخرى حتى يمنَّ الله عليَّ بالشفاء والقدرة».

 

وختامًا أخي الحبيب، إن تجاوز الظلم هو عملية تحرر ذاتي، هدفها أن تعود نفسك إليك، وتستعيد سلامك الداخلي. فلا تستعجل النتائج، ولا تُعاتب نفسك على مشاعر لم تخترها. تذكر دائمًا أنك لست مسؤولًا عن ظلم الظالم، ولكنك مسؤول عن شفائك. وأن عليك أن توازن بين الصبر والاحتساب، وبين حق نفسك عليك في الحماية والعلاج.

 

أسأل الله أن يربط على قلبك، وأن يُذهب عنك ما تجد، وأن يُنزل عليك السكينة والطمأنينة.

 

روابط ذات صة:

متى يكون العفو قوة؟

5 أسس قرآنية للسماحة الإسلامية

أخي ظلمني واغتصب حقي.. أفضحه أم أدعو عليه أم أعفو؟

الرابط المختصر :