<p>ابنتي الوحيدة عمرها اثنا عشر عامًا، وهي ضعيفة الجسم وهزيلة منذ فترة، لا تتغذى جيدًا، ودائمًا ما تتعلل بعدم الرغبة في الأكل أو تدّعي المرض أحيانًا، حتى أشفق عليها وأتركها ترتاح. لكنني بدأت ألاحظ أنها تفعل ذلك عمدًا كي لا أطلب منها المساعدة في أعمال المنزل، فهي تعلم أنني أخاف عليها كثيرًا لأنها مدللتي الوحيدة، ولا أريد أن أتعبها. أصبحت أشعر أنني أنا من صنعت هذا الدلال الزائد، والآن ضقت من تصرفاتها وإهمالها لصحتها ولبيتنا. كيف أتعامل معها بطريقة صحيحة دون أن أؤذيها نفسيًا أو أزيد عنادها؟</p>
أيتها الكريمة، ما وصفتِه هو نموذج شائع في مرحلة الانتقال من الطفولة المتأخرة إلى المراهقة المبكرة، حيث يبدأ الطفل في اختبار ردود أفعال الوالدين تجاه سلوكه، ويكتشف كيف يمكنه من خلال سلوك معين -ولو سلبي- أن يحصل على الاهتمام الزائد أو الإعفاء من المسؤوليات.
المكاسب الثانوية من التمارض
ابنتك هنا لا تعاني من ضعف جسدي حقيقي بقدر ما تُظهر ما نسميه في علم النفس التربوي (Secondary gain) أي المكاسب الثانوية، من المرض أو التمارض، وهي تلك الفوائد الخفية التي يحصل عليها الفرد من وراء تصرف سلبي؛ كالعطف، أو الإعفاء من الواجب، أو الاهتمام المفرط.
وهذا السلوك يتغذى مع الوقت على تعزيز الأم غير المقصود له، أي أنكِ -من فرط خوفك عليها- أصبحتِ دون أن تشعري تكافئين ضعفها بالاهتمام والإعفاء، في حين أن الأصل التربوي هو أن يُكافأ الجهد والانضباط، لا التمارض والانكماش.
منهج التعامل التربوي
وسوف أقترح عليك منهجًا للتعامل التربوي:
١- لا بد من الفهم قبل التغيير:
فقبل أن تغيّري سلوكها، حاولي أن تظهري لها تفهمك لمشاعرها دون أن تُبدي انزعاجك. تحدثي معها بلطف عن أهمية القوة الجسدية، والتغذية السليمة، وارتباطهما بالثقة بالنفس والنجاح، لا كواجبات مفروضة، بل كقيم للذات.
٢- إعادة بناء العلاقة على مبدأ المسؤولية المشتركة:
اجعليها تشعر أن مشاركتها لك في شؤون البيت ليست "واجبًا منزليًّا" بل مشاركة حب واهتمام. ابدئي معها بأعمال بسيطة تتناسب مع عمرها، مع تقديم تعزيز إيجابي (Positive reinforcement) لكل محاولة صادقة منها، ولو صغيرة.
٣- كسر دائرة المكاسب الثانوية:
عندما تدّعي المرض أو ترفض الطعام، لا توبخيها، لكن لا تُسرفي أيضًا في الاهتمام أو الإعفاء. قدّمي لها العناية الأساسية فقط، ثم اتركيها تدرك أن هذا السلوك لم يعد يحقق ما كانت تريده من مكاسب عاطفية.
٤- تطبيق قاعدة "الحزم الحنون":
وهي الجمع بين الحنان والانضباط. أي أن تكوني محبة وقريبة، ولكن ثابتة في قراراتك. فإذا قررتِ أنها تشارك في مهام محددة أو تتناول طعامها في موعده، فلا تتراجعي تحت ضغط العاطفة.
٥- نموذج القدوة (Modeling):
المراهقات يتأثرن بالمشاهدة أكثر من التوجيه. دعيها حتى ترى فيكِ نموذج المرأة القوية المتوازنة، التي تهتم بصحتها وبنظافة وترتيب وتنسيق منزلها وتعمل بحب، كي تُنمي فيها الاقتداء لا الإلزام.
٦- اعملي على التوازن الغذائي والنفسي:
ضعي جدولًا لطعام صحي جذّاب ومتنوع، وأشركيها في إعداده، فهذا يعزز ما يسمى في علم النفس (Intrinsic motivation) أي الدافع الداخلي للمشاركة، بدل الدافع المفروض.
٧- ثم عززي الجانب الإيماني بداخلها:
علّميها أن الجسد أمانة من الله، قال تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، وأن رسول الله ﷺ علمنا أن: "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"؛ فالعناية بالصحة ليست رفاهية، بل عبادة شكر لله على نعمة الجسد وسلامته وقوته.
* همسة أخيرة:
ابنتك لا تحتاج إلى شفقة، بل إلى توازن بين الحنان والحزم.
أحبيها بصدق، لكن لا تتركي خوفك عليها يحرمها من مهارة الاعتماد على الذات.
فالمراهقة التي تتربى على الدلال المفرط قد تواجه لاحقًا ضعفًا في تقدير الذات وصعوبة في مواجهة التحديات الحياتية.
روابط ذات صلة: