<p>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ، أكتب إليكم وأنا في حيرة كبيرة وموقف مؤلم. أنا طالبة جامعية، ومنّ الله عليّ بالالتزام والاستقامة في الفترة الأخيرة، وأسعى جاهدة للمحافظة على صلاتي وقراءة وردي من القرآن، والابتعاد عن الملهيات.</p> <p>مشكلتي تكمن في علاقتي بصديقتي المقرّبة جدًا. هذه الصديقة أحبّها حبًا جمًّا وهي تحبني، ونحن معًا منذ سنوات. لكنها للأسف ليست على نفس درجة اهتمامي بالدين. فكلما كنت معها، نغرق في أحاديث لا فائدة منها، أو نُضيع الوقت في مشاهدة أشياء مباحة لكنها تستهلك الساعات، أو تُؤجِّل صلاة المغرب حتى يضيق وقتها، أو تُبعدني عن حضور الدروس النافعة في الجامعة.</p> <p>أشعر بعدها بضيق شديد في صدري، ويؤنبني ضميري على التقصير في حق ربي بسببها. أنا بين نارين: نار الخوف من الله تعالى على نفسي وعلى تقصيري في علاقتي به، ونار الخوف من خسارة هذه الصديقة العزيزة التي لا أتصور حياتي في الجامعة دونها.</p> <p>فما هو التوجيه الشـرعي والدعويّ لإنقاذ نفسـي وإيماني دون أن أُنهي هذه الصداقة نهائياً؟ وكيف أُقنِعها بلطف أن تُغيّر من أولوياتها؟ جزاكم الله خيراً ونفع بكم.</p>
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بكِ أيتها الابنة الفاضلة، وأسأل الله أن يثبت قلبكِ على الحق وأن يجعل حبّكِ لله ولطاعته هو الحب الأعظم، وأن يُعينكِ على اختيار الصديق الذي يرفعكِ، لا الذي يُسقطكِ. إن ما تشعرين به هو اختبار عظيم يُسمى "فتنة الصداقة"، وهو دليل على حلاوة الإيمان التي وجدتها، وجعلتكِ تخافين عليها من الزوال.
إن الصداقة في الإسلام ليست مجرد قضاء وقت، بل هي شراكة في طريق الجنة، وهنا يكمن الميزان الذي يجب أن توزن به هذه العلاقة.
التأصيل الشرعي (المرء على دين خليله)
1) قاعدة الأخلاء: فلقد حذَّرنا الله تعالى من الصاحب الذي يُنسي طاعة الرحمن، وجعل الندم على مصاحبته من أشد صور العذاب يوم القيامة. قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا] ثم قال تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا] فالصديق الذي يُؤخركِ عن الذكر، هو صديق يُشارك الشيطان في الإضلال.
2) الضـرر المُعدي: فالصاحب إما أن يكون نافعًا كحامل المسك، وإما أن يكون ضارًّا كنافخ الكير. قال النبي ﷺ: "مَثَلُ الجليسِ الصَّالحِ والجليسِ السَّوءِ، كحاملِ المِسكِ ونافخِ الكيرِ؛ فحاملُ المِسكِ إمَّا أن يُحذِيَكَ، وإمَّا أن تَبتاعَ منهُ، وإمَّا أن تجدَ منهُ ريحًا طيِّبةً، ونافخُ الكيرِ إمَّا أن يَحرقَ ثيابَكَ، وإمَّا أن تجدَ منهُ رِيحًا مُنتِنةً" (متفق عليه). فالصاحب الذي يؤخّر صلاتكِ أو وردكِ، هو نافخ كير يُصدر إليكِ "الريح المُنتنة" وهي ريح الذنب والتقصير.
الخطوات العملية الحكيمة في التعامل مع الصديقة
لتضعي العلاقة في إطارها الصحيح دون خسارة محتمة، إليكِ خطوات عملية:
1) المبادرة بالدعوة والقدوة: لا تستعجلي قطع العلاقة، بل ابدئي بالدعوة إليها. اجعلي كل لقاء فرصة للخير. بدل أن تقضيا الوقت في التشتت، اقترحي عليها: "هيا نستغل الـ 15 دقيقة هذه في مراجعة صفحة من القرآن"، أو "تعالي نذهب معًا لحضور درس في مصلى الجامعة". ابدئي بالترغيب لا بالتعنيف، فالقدوة الصامتة أبلغ من ألف كلمة.
2) تنظيم أوقات اللقاء ووضع الحدود: فكونكِ طالبة جامعية، وقتكِ ثمين. حددي مواعيد اللقاء بحسب أولوياتكِ. لا تجعليها تشغلكِ عن وقت المذاكرة أو العبادة.
* الحدّ: إذا بدأ الحديث يخرج عن نطاق الجد أو بدأ وقت الصلاة يضيق، قولي بلطف وحزم: أعتذر، عليَّ الآن ورد القرآن/ أو موعد الصلاة، سنتحدث لاحقًا.
* تقليل الجرعة: قللي عدد ساعات اللقاءات المباشرة، وحوّلي التواصل إلى ما هو لازم للدراسة والمصلحة المشتركة فقط.
3) البحث عن البديل الصالح: فأنتِ بحاجة إلى صديقات صالحات يقمن بعونك على طاعة الله، وهذا ليس خيانة لصديقتكِ القديمة، بل هو حماية لنفسكِ. ابحثي عن زميلات ملتزمات في حلقات الذكر أو دروس العلم ليكنّ رفيقاتكِ في طريق الاستقامة. فكثرة الصحبة الصالحة تُقلّل من تأثير الصاحب السوء.
4) القرار الحاسم (إذا لم يستجب القلب): فإذا دعوتها، ووضعتِ الحدود، واستمرت هي في سحبكِ نحو التقصير، فاعلمي أن خسارة الإيمان هي الخسارة الحقيقية. عندئذ، يجب عليكِ تقليل العلاقة تدريجيًّا إلى حد الزمالة العامة في الجامعة، ورفعها من منزلة الصديق المقرّب إلى منزلة المعارف العاديين، عملاً بقوله ﷺ: "المَرْءُ على دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ" (رواه أبو داود). ودينكِ هو أغلى ما تملكين.
ونصيحتي لك أيتها الأخت الكريمة هي: كوني شجاعة وحازمة في أمر دينكِ. لا تجعلي الحبّ الدنيوي يُعميكِ عن حقيقة الصداقة التي تُراد للآخرة. تذكري أن الصديق الحقيقي هو من يأخذ بيدكِ إلى الجنة، لا الذي يُؤخركِ عن بابها. اجعلي ميزانكِ في الصداقة هو قوله ﷺ: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله".
وأسأل الله أن يثبتكِ على الاستقامة، وأن يرزقكِ الصُّحبة الصالحة التي تُعينكِ على الطاعة، وأن يحفظ قلبكِ من الزيغ، وأن يهدي صديقتكِ، ويجعل في صبرها عليكِ خيرًا لكما في الدنيا والآخرة.
روابط ذات صلة:
صديقتي العائدة بعد الضياع.. باب للدعوة أم للفتنة؟
رفقًا بصديقةٍ تُصرُّ على الذنوب.. كيف أكون لها بابًا إلى الهداية؟