<p>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فضيلة الشيخ/ المستشار الفاضل… أكتب إليكم وأنا أشعر أنني في منتصف الطريق، وكأنني بطل في قصة لم تُكتب نهايتها بعد. أمامي بحر من التحديات التي ترهقني وتبدو مستحيلة، وخلفي جيوش من الشكوك واليأس تطاردني، بعضها من كلام الناس وأكثرها من صوتي الداخلي الذي يوسوس لي دائمًا: لقد هُزمت<span dir="LTR">.</span></p> <p>أرفع يدي إلى السماء فأدعو الله أن يمنحني نصرًا عاجلًا وكرامة أرفع بها رأسي دون مزيد من التضحيات، لكني في داخلي أخشى أنني أطلب نهاية سعيدة دون أن أخوض معاركها الحقيقية<span dir="LTR">.</span></p> <p>أتساءل بصدق: هل أصبحتُ ممن يريدون النصر بلا تعب، والكرامة بلا تضحية؟ وهل نسيت أن سنن الله في كونه وفي قصص أنبيائه تؤكد أن النصر يبدأ من الداخل؟ من لحظة الثبات والصبر، من تلك الصرخة التي نطق بها موسى عليه السلام: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}؟</p> <p>سؤالي لكم: كيف أعيد كتابة قصتي لأكون أنا البطل الذي ينتصر على نفسه وهواه أولًا؟ كيف أُثبت على المبدأ ولو كنت وحدي؟ وكيف أقنع قلبي أن العقبات ليست نهاية القصة، بل المشهد الذي يسبق الفتح الموعود؟ هل يكفي أن أثبت خطوة واحدة حتى يفتح الله لي أبواب النصر؟</p> <p><span dir="RTL">أرجو منكم التوجيه والإرشاد. وجزاكم الله خيرًا</span>.</p>
وعليكم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك أيها الأخ الكريم، وشكرًا جزيلًا على ثقتك بنا، وأسأل الله أن يبارك فيك، وأن يفتح عليك فتوح العارفين، وأن يجعل كل خطوة تخطوها في سبيل الحق والنور نورًا وبركة، وبعد...
فإن رسالتك عامة جدًّا، لم تذكر لنا فيها تحديدًا نوع التحديات التي تواجهها، أو طبيعة المشكلات التي ترهقك، أو مجالات الشكوك التي تريد أن تنتصر عليها؛ لذا فإني -مستعينًا بالله- سأحاول قراءة ما بين السطور وأقدم لك ما يفتح الله به من إرشاد يعينك على تجاوز هذه الأزمة، وإذا أردت إرشادًا أكثر تفصيلاً ودقة، فلا تتردد في مراسلتنا مرة أخرى بتفاصيل أكثر تساعدنا على تقديم ما ينفعك بالضبط.
البطل الذي ينتصر على نفسه وهواه أولًا
أول ما أحب أن أقرره معك هو أن «البطولة» ليست في الوصول إلى «النهاية السعيدة» بسهولة؛ بل في مواجهة التحديات بصدر رحب، وفي صراع الأبطال مع ذواتهم قبل صراعهم مع الأعداء.
أي نصر عظيم، وأي فتح مبين، يبدأ من الداخل. يبدأ من لحظة المواجهة الصادقة مع النفس، مع وساوسها وأهوائها. إن العدو الخارجي قد يكون واضحًا ومحددًا، ولكن العدو الداخلي الذي يوسوس لك باليأس والشك هو الأصعب والأشد.
لقد ضرب لنا القرآن الكريم أروع الأمثلة في قصص الأنبياء، وكيف كان نصرهم يبدأ من داخلهم. فموسى -عليه السلام- لم ينتصر على فرعون إلا بعد أن ثبت قلبه ووثق في ربه. لقد قال له قومه: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾، ولكن موسى رد عليهم بيقين لا يتزعزع: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [سورة الشعراء: 62]. كان هذا اليقين الداخلي هو شرارة النصر التي أضاءت له الطريق، وجعلت البحر ينشق أمامه.
وكذلك يوسف -عليه السلام- الذي واجه محنًا عظيمة، من إخوته الذين ألقوه في البئر، إلى امرأة العزيز التي راودته عن نفسه؛ لكنه انتصر على هذه الفتن الداخلية قبل الخارجية. فقد رفض المعصية، وصرخ بملء فيه: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [سورة يوسف: 23]. كانت هذه الكلمة هي جوهر انتصاره، وبداية الفتح الذي انتهى به عزيزًا على عرش مصر.
ولعل خير ما يجسد هذه المعركة الداخلية هو الحديث القدسي الشريف: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» [رواه مسلم]. إن هذا الحديث يخبرنا أن النصر ليس وليد صدفة، بل هو ثمرة جهد داخلي، ومسيرة إيمانية تبدأ بخطوة صغيرة منك نحو الله، ليأتي هو إليك هرولة.
الثبات على المبدأ ولو كنت وحدك
إن أصعب ما يواجه «البطل» هو أن يجد نفسه وحيدًا في ميدان المعركة، يصارع وساوسه، ويزعزع شكوكه، ويواجه جيوش اليأس التي تضرب في قلبه؛ لكن التاريخ يخبرنا أن كل الأبطال كانوا وحدهم في بداية قصصهم.
تأمل قصة نوح -عليه السلام- الذي دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا. لقد كان وحيدًا في دعوته، يواجه سخرية قومه وعنادهم، ومع ذلك لم ييأس. لقد ثبت على مبدئه، وظل يدعوهم سرًّا وجهرًا، ليلًا ونهارًا، وما آمن معه بعد كل هذا إلا قليل، ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ [سورة هود: 38]. كان ثباته هذا هو مفتاح النصر، ونهاية القصة كانت نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين.
إن الثبات على المبدأ يفتح لك أبوابًا مغلقة، ويجعل الله معك حيث كنت. يقول النبي ﷺ: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ» [رواه الترمذي]. إنك إذا حفظت الله في قلبك، وثبتَّ على مبادئك، حفظك الله من كل سوء، وكان معك يوجهك ويرشدك.
العقبات ليست نهاية القصة
لقد اختصرت عليَّ كثيرًا من الكلام حين قلت بنفسك إن «العقبات ليست نهاية القصة»؛ نعم، إنها مقدمة الفتح الموعود. إن الله يختبر صبر عباده، ويمحص قلوبهم بالابتلاءات، ليميز الخبيث من الطيب، ويصطفي من عباده من يستحقون النصر.
إن الله لا يُضيع أجر المحسنين، ولا يُخلف وعده لعباده الصابرين. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة البقرة: 155]. إن قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» في هذه الآية، هي رسالة واضحة لك ولكل من يمر بابتلاء. إنها تقول لك: اثبت، فإن البشارة آتية لا محالة.
وختامًا أخي الحبيب، تذكر دائمًا أن الله معك في كل خطوة، وفي كل صراع. إن بطولتك الحقيقية تكمن في أن تنتصر على نفسك، وتثبت على مبدئك، وتدرك أن العقبات ما هي إلا جسر تعبر عليه إلى النصر والفتح الموعود.
فثق في نفسك، وفي قدراتك، وفي ربك. وابدأ كل يوم جديد بقلب واثق، ونفس مطمئنة. فما دمت تسير في طريق الحق، فلن يضيعك الله أبدًا.
وفقك الله وسدد خطاك، وجعل لك فتحًا قريبًا.