بعد الغدر صرتُ أقدِّم «سوء الظن».. مَرَضٌ أم جراح؟

<p>تعرضت للغدر من أقرب الناس لي: صديق، وزميل، وأحد الأقارب. كنت أُحسن الظن دومًا بالناس، لكني الآن صرت أشك في كل من حولي، وأقدم سوء الظن دائمًا.</p> <p>أُدرك أن هذا لا يليق، لكنه أصبح لي درعًا لا أستغني عنه.</p> <p>فهل فقدان الثقة بالناس يُخالف حسن الظن الشرعي؟</p> <p>وهل ما في قلبي هو مرض متأصل؟ ولو كان فكيف أعالجه؟</p> <p><span dir="RTL">أم هو مجرد جراح؟ وإن كانت فكيف تشفى هذه الجراح؟</span></p>

مرحبًا بك أيها السائل الكريم، وأشكرك على ثقتك بنا، وأسأل الله أن يبارك فيك ويشرح صدرك ويُذهب عنك ما تجده، وبعد...

 

فإن ما مررت به من غدر من أقرب الناس إليك ليس بالأمر الهين، وإنه لموجع حقًّا، ومؤلم أشد الإيلام، ولهذا كان لزامًا عليك أن تشعر بهذه المشاعر المتضاربة.

 

إنها فعلًا جراح غائرة في القلب، وليست -بالتأكيد- مرضًا متأصلًا في قلبك؛ بل إنها رد فعل طبيعي لنفس تعرضت للخذلان، ومن أقرب الناس.

 

إن قلبك -يا أخي- لا يزال سليمًا؛ لكنه يبحث عن درع يحميه من تكرار الألم، وهذا الدرع الذي وجدته هو «سوء الظن»!

 

هل فقدان الثقة بالناس يُخالف الأمر بإحسان الظن؟

 

نعم، إن ما في قلبك من فقدان مطلق للثقة بالناس يُخالف مبدأ إحسان الظن (المبدئي والواعي) الذي أمرنا به الله ورسوله. إن فقدان الثقة الكلي هذا، أو سوء الظن الدائم، قد يُوقعك في الإثم إذا لم يكن مبنيًّا على أدلة قاطعة، ويُؤثر في علاقتك بالله والناس.

 

إن مبدأ حسن الظن هو الأساس في تعامل المسلم مع إخوانه، حتى وإن رأى منهم ما يُثير الشك؛ فالأصل هو حمل كلامهم وأفعالهم على أحسن المحامل ما لم يتبين خلاف ذلك. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]، ويُبين لنا رسول الله ﷺ خطورة هذا الأمر بقوله: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» [رواه البخاري].

 

ولكن يجب أن نُميِّز هنا بين سوء الظن المذموم، وبين الحذر المشروع. فليس كل حذر سوء ظن؛ بل إن هناك حالات يكون فيها الحذر واجبًا، كأن تكون هناك دلائل واضحة على سوء نية شخص ما، أو أن تكون قد تعرضت من قبل لأذى من هذا الشخص بعينه. إن الحذر هو جزء من فطرة الإنسان التي تحميه، ولكن يجب ألا يُصبح هذا الحذر غطاءً لسوء الظن المطلق بالناس كافة.

 

هل هو مرض متأصل؟ وكيف نعالجه؟

 

لا يا أخي الكريم، ما في قلبك ليس مرضًا متأصلًا، بل هي جراح نفسية تحتاج إلى عناية خاصة حتى تُشفى. فكما أن الجسد يُجرح ويحتاج إلى علاج، فكذلك القلب يُجرح ويحتاج إلى وقود إيماني يُعيد له عافيته.

 

وإليك بعض الطرق التي قد تُعينك على علاج هذا الشعور:

 

1- الاستعانة بالله والدعاء:

 

عليك أن تلجأ إلى الله، وتُكثر من الدعاء بأن يُطهر قلبك، ويُزيل عنه هذه الغيوم. فالله وحده القادر على أن يُعيد لقلبك الصفاء والنقاء. قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60].

 

2- التدبر في قصص الأنبياء والصالحين:

 

إن قصص الأنبياء مليئة بالغدر والخيانات والإيذاء، ومن أقرب الناس لهم (والمقام لا يتسع لذكر أمثلة لذلك، فطالع سير الأنبياء وسترى من ذلك الكثير) ومع ذلك، لم يُقابلوا هذا كله بسوء ظن مطلق بالناس، بل واصلوا دعوتهم وعطاءهم وإحسانهم.

 

3- العفو والصفح:

 

إن العفو عمَّن أساء إليك هو السبيل الأول لتحرير قلبك من الأثقال التي يحملها. فالعفو ليس ضعفًا، بل هو قوة عظيمة. يقول تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40]. إنك حين تعفو، لا تعفو من أجلهم، بل تعفو من أجل نفسك، وتُحررها من عبء الكره والألم، متأسيًا بالأنبياء والمرسلين والصالحين في كل عصر. وتأخذ بذلك الأجر العظيم من الله، فقد مدح العافين عن الناس في قرآنه، ووعدهم جنة عرضها السماوات والأرض، فقال: ﴿وسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ والأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133 و134].

 

4- تعزيز الثقة بنفسك:

 

إن من أهم أسباب فقدان الثقة بالآخرين هو ضعف الثقة بالنفس. فعليك أن تُدرك قيمة نفسك، وأنك لست مسؤولًا عن سوء تصرفات الآخرين؛ بل هم المسؤولون عنها. فلا تدع تصرفاتهم تُقلل من شأنك أو من قدرك.

 

5- عدم التعميم:

 

إن غدر البعض وخيانتهم لا يعني أن الناس جميعًا غدارون خائنون. فالعالم كما أن فيه غادرين وخائنين، ومن لا يستحقون الثقة وحسن الظن، هو مليء بالخيرين والمخلصين والمحسنين، فلا تُعاقب المحسن بخطأ المسيء.

 

وإن كانت جراحًا.. فكيف تُشفى؟

 

إن هذه الجراح ستُشفى -بإذن الله- حينما تُقرر أنت ذلك. إنها تحتاج إلى وقت، وصبر، وإيمان، ورعاية.

 

جرح الغدر: علاجه هو التسامح، لا من أجلهم، بل من أجل راحة قلبك، ونيل ثواب الله الذي لديه الأجر العظيم.

 

جرح فقدان الثقة: علاجه هو عدم التعميم، فكما ذكرنا، يجب ألا تُعمم تجربة سيئة على كل حياتك. حاول أن تبدأ بتجارب بسيطة مع أناس جدد، وأن تُعطيهم وتعطي نفسك فرصة.

 

جرح سوء الظن: علاجه هو التدبر في الآيات والأحاديث التي تأمر بحسن الظن، وتُحذر من عواقبه. وعلاجه أيضًا هو الدعاء بأن يُطهر الله قلبك ويُزيل منه كل سوء ظن.

 

وختامًا أخي الحبيب، فإن كثيرين يتعرضون للغدر والخذلان، والمؤمن الحق هو من يخرج من هذه التجربة أقوى، وأكثر إيمانًا، وأكثر ثقةً بالله. اجعل هذه التجربة درسًا يُعلمك الحذر، لا بابًا يُغلق قلبك عن الناس.

 

أسأل الله أن يربط على قلبك، وأن يُذهب عنك كل هم وحزن، وأن يُلهمك الصواب، ويُعينك على تجاوز محنتك، وأن يُعيد لقلبك الصفاء والنقاء. وتابعنا بأخبارك.