<p>تتعدد حالات الانتحار والاكتئاب لدى الأثرياء والمشاهير، فلماذا ينتحر هؤلاء ويكتئبون رغم الوفرة المادية، هل غياب المعنى يقف وراء تلك الظاهرة؟</p>
سؤالكم يلمس مشكلة متمددة في الطبقة الثرية والمترفة وكذلك الطبقة التي تتمتع بشهرة طاغية، وهي لماذا ينتحرون رغم هذه الوفرة المادية الكبيرة، ولماذا لم تقترن عندهم السعادة بحب الحياة، رغم أن أسباب الحياة متوفرة وميسرة؟
هذا السؤال يمكن طرحه بالنسبة للأغنياء والمشاهير كأفراد، ويمكن تطبيقه أيضًا على المجتمعات، حيث تشير الاحصاءات إلى أن الدول التي تتمتع بمستويات أعلى في السعادة هي ذات الدول الأعلى في مستويات الانتحار والرغبة في الانتحار.
فعلى سبيل المثال تشير تقارير السعادة العالمية إلى أن فنلندا والدنمارك هما أسعد دولتين في العالم، لكن تقارير أخرى تؤكد أنهما الأعلى في متوسط الانتحار، في حين أن ما يمكن تسميته بـ"الدول التعيسة" أو الدول الأقل سعادة هي الأقل في متوسط معدلات الانتحار، فنجد أن فنلندا هي الأعلى في معدلات الانتحار عام 2016م بمعدل 15.6، في حين نجد سوريا في سنوات ثورتها ضد نظام الأسد كانت الأقل وبلغ 1.9 لكل مائة ألف.
حتى الأفكار الانتحارية نجدها الأكثر في الدول الثرية ذات الوفرة؛ ففي عام 2020 نجد إحصاءات رسمية في الولايات المتحدة ذكرت أن حوالي 12.2 مليون أمريكي راودتهم أفكار انتحارية، وأن 10% من هؤلاء فكّروا في الانتحار، ووفق إحصاءات عام 2023 سُجِّلت أكثر من 49 ألف حالة انتحار في الولايات المتحدة.
هذا التناقض بين الرفاهة في تلك الدولة السعيدة وبين الانتحار طرح تساؤلات كثيرة عن أسباب الانتحار، وأن السعادة قد لا تعني حب الحياة.
أما على مستوى الأفراد، فنجد انتحار الكثير من الأثرياء والمشاهير خاصة في عالم الفن، وجرت في العام 2021 دراسة مهمة عن أسباب انتحار الناجحين، ذكرت أن هناك ثلاثة مشاعر تدفع الشخص إلى الانتحار وهي: اليأس، والعجز وانعدام القيمة، وخلصت الدراسة إلى أن خطر الانتحار يزداد مع انخفاض السعادة.
ومما ذكرته تلك الدراسة أن العالم المعاصر بفعل مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت أصبح يركز أكثر على النجاح، حتى أصبح النجاح هو معيار السعادة، وأصبح النجاح هو الذي يعطي المعنى للحياة، ومن ثم فمع أي فشل يفقد الإنسان المعنى، ويتضاءل احترام الذات، وتتراجع الرغبة في الحياة، وفي ظل تلك الأزمة النفسية المغلقة يظن هؤلاء –وهْمًا- أن التخلص من الحياة هو المنقذ من تلك الأزمة المستحكمة على الذات الإنسانية، حتى وإن كان ذلك الإنسان متخمًا بالثروة ولا تغفل عنه أضواء الشهرة والإعجاب.
وفي دراسة أخرى مطولة صدرت في نوفمبر عام 2023 أكدت أنه تم تحديد فقدان المعنى في الحياة كأحد العوامل الرئيسية الدافعة إلى الانتحار، وأشارت الدراسة إلى أن فقدان المعنى ذو ثلاثة أبعاد هي: عدم الفهم، وانعدام الهدف من الحياة، والإحساس بعدم الأهمية في الحياة، وهذه الثلاثية قديمة متجددة، فعلى سبيل المثال الفيلسوف الروسي الشهير "تولوستوي" لم يستطع أن يجب عن سؤال "لماذا أعيش؟" في سنواته الأخيرة، وفكّر في الانتحار، وقال "أفضل ما يمكن فعله أن أشنق نفسي"، أما في وقتنا الراهن فإن أزمة المعنى أشد تجليًا وأكثر ضحايا.
وهنا نجد الإسلام يجيب للإنسان عن تلك الأسئلة ويحدد له غايته في الحياة وبذلك يخلق لها معنى متجددًا، ومن الناحية الأخرى يُقوي صلابته في مواجهة شدائد الحياة وصعوباتها، ويرفض فكرة الانتحار، يقول تعالى في سورة "الحج" الآية (15): ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾.