<p>السلام عليكم د. أميمة،</p> <p>أنا أم لطفل لم يُكمل عامه الأول بعد، وقد منّ الله عليّ هذا العام بفرصة لا تُعوَّض لأداء فريضة الحج مع زوجي، بعد سنوات من الدعاء والانتظار. هذه الفرصة جاءت فجأة عن طريق القرعة، وأنا أشعر بفرحة عارمة ممزوجة بقلق كبير، بل أصبحت في حالة نفسية متوترة ومضطربة منذ تأكد خبر السفر.</p> <p>مشكلتي أنني شديدة التعلّق بطفلي، بل إن مجرد فكرة الابتعاد عنه لأيام تُربكني وتُؤلمني. ورغم أن زوجي يحاول طمأنتي ويذكّرني بأن الحج فريضة عظيمة، وفرصة ربانية قد لا تتكرر، إلا أن قلبي مشدود إلى ابني بشكل لا أستطيع وصفه، وأشعر بذنب يمزقني إذا ما تركته وراء ظهري حتى لو أيامًا معدودة.</p> <p>من جهة أخرى، والدتي ـ وهي التي كانت ستعتني به أثناء غيابي ـ بدأت تُثنيني عن الفكرة، وتُشعرني بالذنب والخطر، وتقول إن الطفل صغير جدًا وقد يتعب، وأن لا أحد سيهتم به مثلي، وإن قلب الأم لا يُعوّض، وأنني لن أرتاح هناك، وسأظل أبكي عليه وأشتاقه.</p> <p>كذلك بعض قريباتي وصديقاتي أبدين استغرابهن من نيتي للحج في وجود طفل رضيع، وقالت إحداهن إن "الحج لا يصح وأنتِ مهمومة"، وأخرى قالت "ربما تتأخرين، وربما يحتاجك ولا يجدك"، فبدأت تتصارع في قلبي مشاعر الحيرة والخوف، وبدأت أفكر فعلًا هل أنا أم أنانية؟! هل تأدية الفريضة الآن فيها تفريط في حق ابني؟ أم أن البقاء بسبب خوفي هو التفريط الأكبر في نعمة ساقها الله إليّ؟!</p> <p>أصبحت كثيرة البكاء، متوترة في كل قرار، لا أستطيع النوم، وأعيش حالة من الاضطراب النفسي بين شوقي إلى الحج، وقلقي على صغيري.. فما توجيهك لي كأمّ تمرّ بهذه المعادلة المعقدة؟</p>
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
يا أيتها الأم الحنونة المتعبة بمشاعرك، القلقة من شدة محبتك، الوفيّة في أمومتك ووجدانك، أسأل الله أن يربط على قلبك، ويشرح صدرك، ويأخذ بيدك إلى القرار الذي يرضاه عنك وتطمئن إليه نفسك.
بدايةً، إن ما تمرين به من صراع نفسي داخلي، سوف أتناوله من ثلاث زوايا متكاملة: نفسية تربوية، أسرية واقعية، وشرعية إيمانية.
أولاً: من الزاوية النفسية التربوية:
ما تمرين به يُعرف في علم النفس الأسري باسم (Maternal Separation Anxiety) أو "قلق الانفصال الأمومي"، وهو شعور شائع بين الأمهات، خصوصًا في مرحلة الطفولة الأولى للرضيع، حيث لا تزال الأم في ذروة التعلق الهرموني والعاطفي مع طفلها، ولا غرابة في ذلك، فهرمون الأوكسيتوسين Oxytocin، المسمى بـ"هرمون الحب"، يزداد بعد الولادة ويجعل مشاعر الارتباط أقوى وأشد.
ولكن، دعيني أذكّرك أن التعلق العاطفي الصحي، لا يعني التمسك المرَضي، بل التوازن الذي يُراعي حق الطفل وحق النفس وحق الله.
الخوف على الطفل يجب ألا يتحول إلى قلق مُفرط؛ لأن ذلك قد يؤثر سلبًا على استقراره لاحقًا، ويمنعه من تطوير الاستقلالية تدريجيًّا. بل إن من علامات التربية الناضجة أن تتعلم الأم كيف توازن بين العطاء والرعاية، وبين أداء واجباتها الروحية والنفسية دون إفراط في التعلق، وهذا ما يُعرف في التربية الحديثة بـ (Emotional Regulation in Parenting)، أي "ضبط الانفعالات في الأمومة".
ثانيًا: من الزاوية الأسرية الواقعية:
سافري بعقلكِ إلى يوم الحج، وتأملي المشهد جيدًا..
هل ستكونين هناك وقلبك مستقر؛ لأنك أحسنتِ الترتيب، واخترتِ من ترعين به صغيرك، وجهزتِ كل ما يطمئنك؟ أم أن فكرة "أنا فقط من يستطيع أن يهتم به" ستظل تطاردك وتفسد عليك فريضةً كتبها الله؟
انظري مِن حولك: كم من أمّ غابت عن صغيرها أيامًا في سفر، أو للعلاج، أو للولادة مرة أخرى، وعاد الطفل أكثر قوة؟ وكم من أمّ ظلت أسيرة التردد، حتى أضاعت فُرصًا لا تُعوّض؟ أنتِ لستِ أمًّا أنانية، بل أمٌّ واقعية تبحث عن رضا الله وراحة الضمير في آنٍ واحد.
تذكّري أن الطفل حين يُترك في بيئة آمنة، ومع جدة حنونة، وفي وجود جدول واضح، واحتياطات مناسبة، فإن ذلك يُكسبه مرونة نفسية، ويُكسبكِ أنتِ أيضًا مزيدًا من الاستقلال الذاتي المتزن كأمٍّ راشدة، تُوازن بين أدوارها، لا تختزلها فقط في دور الحاضنة.
ثالثًا: من الزاوية الشرعية الإيمانية:
نجد أن الحج فريضة عظيمة، وهو من أركان الإسلام، قال الله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾. وقال رسول الله ﷺ: «تابِعوا بينَ الحجِّ والعُمرةِ، فإنَّهما ينفيانِ الفقرَ والذنوبَ، كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديدِ».
غاليتي، ألم تقولي بنفسك: إن الفرصة جاءت من عند الله؟ إذن من تمام التوكل عليه أن تثقي أن من هيّأ لك السبل، سيهيئ لطفلك من يحتضنه ويرعاه. والله أرحم بك وبابنك من نفسك ومن أمك، وهو القائل: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ﴾.
فإن استقر رأيك على الحج، فافرحي، واستخيري، واستودعي صغيرك الله تعالي، وافرشي له أسباب الطمأنينة، واذهبي بقلبٍ ساكن، وادعي له هناك في كل طواف وسجود.
أما وإن شعرتِ أن قلبك لا يحتمل الفراق الآن، فلك أن تؤجلي، ولا حرج عليكِ؛ فالله لا يكلّف نفسًا إلا وسعها. وما دام في نفسك ضيق شديد، فلا تُجبريها على شيء لا تحتمله. لكن إياك أن تتركي القرار خوفًا فقط، بل ليكن وعيًا وتقديرًا صحيحًا للقدرة والظرف.
* همسة أخيرة لقلبك حبيبتي:
يا أيتها الأم المباركة، لا تعيشي مشاعرك في ثنائية "إما أنا أم جيدة فأبقى، أو مؤمنة فأذهب"، بل اجمعي بين الاثنين بحكمة ورضا.
الأم الجيدة تعرف متى تعطي وتبقى، ومتى تؤدي فروضها وتتوكل. استودعي صغيرك الله، فهو الذي لا تضيع عنده الودائع.
أسأل الله أن يُريكِ الخير، ويُقدّره لك، ويجعل قرارك كله بركة وطمأنينة، وأن يجعل ابنك قرة عين لك في كل حين، وأن يكتب لك حجًا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، وقلبًا مملوءًا يقينًا ورضًا.. وأوصيكِ ألا تنسي أختك الفقيرة إلي الله تعالي، أميمة السيد، من دعائك يوم عرفة.