<p>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أكتب إليكم وأنا في حيرة شديدة من أمري، أطلب منكم النصح والتوجيه الشرعي لما فيه رضا الله وسلامة ديني<span dir="LTR">.</span></p> <p>أنا موظف أعمل في قسم مراقبة الجودة في إحدى الشركات، وتتلخص مهمتي في متابعة سلامة المنتج النهائي، ورصد أي أخطاء أو عيوب تظهر أثناء مراحل التصنيع أو الإعداد، ثم إعداد تقارير مفصّلة للإدارة تتضمن وصفًا دقيقًا للمشكلة وتحديد المسؤول عنها، سواء أكان شخصًا أو قسمًا بعينه. وغالبًا ما تترتب على هذه التقارير إجراءات إدارية بحق الموظف المسؤول، قد تصل إلى لفت النظر أو الخصم من الراتب أو حتى التهديد بإنهاء الخدمة<span dir="LTR">.</span></p> <p>مشكلتي أنني أصبحت هدفًا للاتهامات وسوء الظن من قِبل بعض زملائي، الذين يرون أنني بتقارير المتابعة هذه أتسبّب لهم في الأذى، حتى وإن ثبت الإهمال أو التقصير من جانبهم. بعضهم يلمّح، وبعضهم يصرّح علانية، بأن عليّ أن "أطنّش" الأخطاء، وأتغاضى عنها، وأداري زملائي، لأن "الستر واجب"، ولأن ذلك "نوع من التعاون" كما يدّعون. بل إن بعض من يحمل سمتًا دينيًا صار يقول لي إن ما أفعله يوقع الناس في الحرج والأذى ويغضب الله، لأنني لا أرفق بإخواني المسلمين<span dir="LTR">.</span></p> <p>لكنني والله لا أفتري عليهم، ولا أزيد في التقارير شيئًا لم يحدث، وأشعر أن ما أقوم به هو أداء للأمانة التي وكلت إلي، وشهادة يجب أن أُؤديها بحق. ولما رأيت هذا الضغط المتزايد من الزملاء، حاولت الاعتذار عن هذه المهمة، وطلبت نقلي منها، لكن الإدارة رفضت بسبب ثقتها بي وبنزاهتي<span dir="LTR">.</span></p> <p><span dir="RTL">فأنا الآن ممزق بين ما أراه حقًا وواجبًا أمام الله، وبين نظرة الناس وكراهيتهم لي. فهل ما أقوم به صواب من الناحية الشرعية؟ وهل أُعتبر مؤذيًا لإخواني إن التزمت بالحق وأديت الأمانة كما ينبغي؟ وهل يجب عليَّ أن أتغاضى عن الأخطاء لأجل "الستر"؟ أرشدوني، جزاكم الله عني خير الجزاء</span>.</p>
مرحبًا بك أخي الكريم، وجزاك الله خيرًا على مراسلتك لنا، ونسأل الله أن يبارك لك في دينك ودنياك، وأن يجزيك خير الجزاء على حرصك على أداء الأمانة، وسعيك إلى أن ترضي ربك وإن سخط الناس، فإن هذا –والله– هو الفلاح كل الفلاح، ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور: 52]، وبعد...
فما أجمل أن نرى من عباد الله مَن يحمل همَّ الأمانة، ويرفض أن يبيع دينه وضميره مقابل رضا الخلق أو مداراة الباطل!
وظيفتك أمانة وشهادة
الوظيفة التي تقوم بها –يا أخي– هي في حقيقتها أمانة، ونوع من الشهادة، وعدم كتمانها هو من صميم الإيمان، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: 283].
وأنت حين ترفع تقارير عملك في مراقبة الجودة للإدارة، لا تفعل ذلك ظلمًا لأحد، بل أداءً للحقِّ، وخوفًا من أن يُبنى قرار إداري على جهل أو تضليل، وهذا من أعظم أبواب الأمانة، التي وصف الله بها المؤمنين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون: 8].
وتأمل في وصية النبي ﷺ: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» [متفق عليه]، وأنت راعٍ في موضعك، تُؤتمن على عملك، وستُسأل عنه، فهل يصح أن تجامل زميلًا على حساب الشركة؟ أو تغض الطرف عن تقصير قد يضر بالناس أو بسمعة العمل؟ لا والله، إن هذا هو التضييع بعينه.
المحاسبة الناتجة عن عملك هي عين العدل
ينبغي التفريق هنا بين رفع التقارير بالأخطاء وبين القرار الإداري بالعقوبة؛ فأنت لست صاحب العقوبة، بل أنت ناقل للواقع، موثِّقٌ لما يجري، أما المحاسبة فليست بيدك.
والإسلام لا يمنع المحاسبة على التقصير، بل إنَّ من معاني «العدل» أن يُعطَى كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، وأن يُؤخذ على يد المقصر، وخصوصًا إن تكرر منه الإهمال، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]. وقد قال النبي ﷺ: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، فقالوا: يا رسول الله، ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: «تمنعه من الظلم، فذلك نصره» [رواه البخاري].
فمن أعظم النصرة لإخوانك (زملائك) أن تُعينهم على إصلاح أنفسهم، وتنبههم إلى الخلل، لا أن تغشَّهم بسكوتك، أو تدفعهم للتهاون بإهمالك. إنك بهذا تغرس في بيئة العمل احترام الحق، لا الطعن في الزملاء.
اتهامهم لك ابتلاء تؤجر عليه
أخي الكريم، من الطبيعي أن تواجه بعض الأذى النفسي، والتجريح، والتشكيك في النية؛ بل حتى الطعن في تدينك، وهذه ضريبة الثبات على المبدأ، يدفعها كل صادق، وكل أمين، وكل مصلح، وكل صاحب مبدأ، فقد قال الله -عز وجل- عن أهل الحق: ﴿فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا﴾ [الأنعام: 34]، وقال أيضًا: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [آل عمران: 186].
وأنت حين تتحمل هذا في سبيل أداء الأمانة، فأنت في طاعة تُؤجَر عليها إن شاء الله، ما دمت تخلص النية، وتبتغي وجه الله.
هل الستر مقدَّم على الأمانة؟
كثيرًا ما يُساء فهم حديث النبي ﷺ: «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» [رواه مسلم]، فيظنه البعض دعوة لترك المحاسبة أو التغاضي عن التقصير، وهذا غير صحيح.
فالستر يكون في الذنوب الخاصة التي لا يتعلق بها حق عام، ولا ضرر على الناس، وأما الأخطاء التي فيها ضررٌ على جهة العمل، أو على الناس، أو تُسهم في إفساد بيئة العمل، فهنا يجب فيه البيان، والتوضيح، والنصيحة، والمكاشفة.
وقد قال النبي ﷺ: «الدين النصيحة» قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم» [رواه مسلم].
ولو سكتَ كلُّ مسؤولٍ عن الخطأ خشية أن يُقال إنه فَضح، أو لم يستر، لتفشَّى الفساد، وتجرَّأ الناس على التقصير.
أنت أهلٌ لثقة الإدارة فلا تخذلها
حين حاولتَ التخلِّي عن هذه المهمة، ورُفض طلبك من قبل الإدارة، فهذا دليل على قدر ثقة القائمين عليها فيك، وتمسكهم بك. واعلم أن الله قدَّر لك أن تبقى في موضعك هذا، لا لتعاني؛ بل لتكون من القليلين الذين يُقيمون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم. فلا تهرب، ولا تضعف؛ بل احتسب، واصبر، واستعن بالله، وابكِ بين يديه أن يثبِّتك ويشرح صدرك، واعلم أن عِظَم الأجر على قدر المشقة.
كيف تتعامل مع مشاعر الزملاء؟
من المهم –أخي الكريم– أن نعي أن الحق لا يعني الجفاء، وأن أداء الأمانة لا يتعارض مع اللين والرفق وحسن الخلق؛ بل إن المؤمن الحق هو من جمع بين صدق الموقف ولين الجانب، وقد قال رسول الله ﷺ: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه» [رواه مسلم].
لذا، فإن تعاملَك مع زملائك ينبغي أن يتَّسم بالرحمة، والحرص على الإصلاح، لا بالتشفي ولا بالقسوة. يمكنك أن تُظهِر لهم أنك لا تسعى لإيذائهم؛ بل إنك تتألَّم حين تُضطر لرفع تقصيرهم للإدارة، وأن قلبك معهم، ولكن ضميرك وإيمانك يمنعانك من خيانة الأمانة.
حدِّثهم عن خوفك من الله، وأنك ترى نفسك شاهدًا لا خصمًا، وأنك لو سكتَّ عن التقصير لكنتَ خائنًا لله قبل أن تكون خائنًا للشركة. وأكِّد لهم أن غايتك ليست الضرر، بل الإصلاح، وأن من أخطأ فليتحمَّل نتيجة خطئه، كما تتحمَّله أنت أو غيرك إن قصَّر.
اجعل بينك وبينهم مساحة من التواصل الإنساني الصادق، قدِّم لهم النصح الهادئ قبل أن تُرسل التقرير، وادعهم للتعاون والحرص على الجودة، وامدح المجتهدين منهم علنًا، لئلا يظنُّ أحد أنك لا ترى إلا الخطأ.
واجعل شعارك قول الله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34].
بهذه الروح، تجمع بين أداء الواجب، وحفظ العلاقات، وبناء بيئة عمل راقية، تؤدي فيها دورك الإيماني والمهني بميزان الحكمة والرحمة معًا.
وختامًا -أخي الكريم- أبشِر، فما أنت فيه اختبار، وإذا صبرت وصدقت، كنت من أولياء الله الذين يُحبُّهم ويحبُّونه.
فامضِ على ما أنت عليه، ولا يضرُّك من خالفك أو لم يرضَ عنك، فإن رضا الله هو الغاية، وكل ما عداه فإلى زوال.
وفقك الله وسدَّد خطاك، وجعل ما تتحمله من أذى في ميزان حسناتك، وأبدلك به عزًّا في الدنيا، ورفعةً في الآخرة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.