<p style="direction: rtl;">السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أستاذتي الكريمة، أنا أم لعدد من الأبناء، ربيتهم بجهدٍ وحب، وكنتُ دائمًا أردد في نفسي: "أعظم إنجاز يمكن أن أقدمه في حياتي هو أن أربي أولادًا صالحين، يشبهون الصحابة في أخلاقهم، ويكونون قدوة في الصدق، الكرم، حسن الخلق، وصلة الرحم." ولعلّني وُفقت – بفضل الله – في غرس هذه القيم الجميلة في نفوسهم، فهم طيبون، متسامحون، أهل مروءة ومبادرة وعطاء.</p> <p style="direction: rtl;">لكنني اليوم، أكتب إليكِ وأنا قلقة، في حيرة شديدة، لا أدري: هل ما علمته لهم كان كافيًا؟ أم أنني غفلت عن شيء جوهري؟ لقد علمتهم: أن لا يردوا على من شتمهم، وأن يقولوا كما علمنا القرآن: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا". وأن يعطوا من حرمهم، وأن يصلوا من قطعهم، وأن يُحسنوا حتى لمن يسيء. وأن يكونوا صادقين، لا يعرفون الكذب، ولا الخداع، ولا التلاعب. وأن يؤثروا غيرهم، وأن لا يحملوا في قلوبهم حقدًا ولا حسدًا.</p> <p style="direction: rtl;">لكن الواقع اليوم صادم... مؤلم. أرى الناس يستغلونهم. كل من حولهم يعرف عنهم كل شيء، لأنهم لا يعرفون كيف يحفظون خصوصيتهم. صاروا لا يملكون حدودًا، الكل يتدخل في حياتهم، يسأل، ينتقد، يتطفل... وهم لا يعرفون كيف يغلقون الأبواب دون أن يُشعروا الآخرين بالإهانة. يُستغلّ صدقهم، ويُنتقد كرمهم، ويُفسر حُسن نيتهم على أنه سذاجة. يُعامَلون أحيانًا بقسوة من أقاربهم، يُقطعون ويُهانون، فلا يردون ولا يعاتبون، لأنهم تعلموا "أن تصل من قطعك، وأن تعفو عمن ظلمك." حتى الإيثار، الذي ظننته من أرقى الأخلاق... صار نقمة عليهم. لا يدّخرون لأنفسهم شيئًا، لا مالًا، ولا وقتًا، ولا جهدًا. وإذا احتاجوا، لم يجدوا من يردّ لهم المعروف!</p> <p style="direction: rtl;">أستاذتي، هل أخطأت في أنني علمتهم جانبًا واحدًا من الأخلاق، ونسيت أن أعلّمهم كيف يكونون أقوياء، كيف يحمون أنفسهم؟ هل من الخطأ أن يكونوا طيبين في زمن لا يرحم الطيبين؟ كيف أوازن الآن بين الخير والحزم، بين الصلاح والحكمة، بين التراحم ووضع الحدود؟ وهل تأخرت في إعادة تشكيل هذا التوازن؟ هل لا يزال بإمكاني أن أضيف إلى تربيتهم هذا الجانب دون أن أهدم ما بُني من الخير في نفوسهم؟</p> <p style="direction: rtl;">أرجوكِ أرشديني، فأنا لا أريد أن أندم، ولا أريد أن أراهم ضحايا لأخلاقي التي غرستها فيهم، ظنًّا مني أنها ستحميهم. جزاكِ الله عني خير الجزاء. أمّ... ما زالت تؤمن بالتربية، رغم أن أولادها بمقتبل الشباب</p>
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أيتها الأم الطيبة الحنون، صاحبة القلب الكبير، والعقل اليقظ، والضمير الحي..
تحية إجلالٍ وتقدير أبعثها إليكِ، وقد قرأتُ رسالتكِ التي كُتبت بماء القلب، ومُزجت بحبر الخوف النبيل، والحرص الأمومي الخالص.
واسمحي لي أن أقول لكِ من أول حرف: ما أعظمكِ! وما أكرم هذا الهمّ الذي تحملينه، والذي لا يحمله إلا أمّ عظيمة مثلك، رأت أن التربية رسالة لا مجرد وظيفة، وأن بناء الإنسان أعظم من بناء الحجر.
يا أمّ الصادقين، يا راعية القيم السامية...
أول ما أحب أن أؤكده لك: أنتِ لم تخطئي. بل قمتِ بأعظم ما يمكن أن يقوم به مربٍّ في هذه الحياة: غرس القيم الأصيلة التي تُقيم بها الأمم وتُصلح بها المجتمعات. لقد زرعتِ بذور الخير في أرضٍ طيبة، وبإذن الله لن يضيع غرسكِ، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}.
لكن سؤالك النبيل العميق عن الاتزان التربوي هو ما يدلّ على حكمتكِ وبعد نظرك، فالخير حين يُغرس دون وعي بالحماية، قد يُستغل، والصفاء حين يُمنح دون ضوابط، قد يُساء فهمه.
دعيني أفصّل لكِ الأمر من منظور علمي:
أولًا: التربية المتوازنة بين النية الطيبة والوعي الحازم
ما علمته أبناءكِ هو ما يُعرف في علم النفس بـ "القيم الأخلاقية الأساسية" (Core Moral Values) مثل: الصدق، الإيثار، العفو، الإحسان، وهي تمثل ما يُبنى عليه الضمير، وتكوّن ما نسميه بـ "البُعد الداخلي" للشخصية.
لكن في الجانب المقابل، هناك ما يُعرف بـ "المهارات الاجتماعية الوقائية" (Protective Social Skills)، والتي تشمل:
- مهارة وضع الحدود.
- مهارة قول "لا" بذكاء.
- مهارة إدارة العلاقات.
- مهارة الحفاظ على الخصوصية.
وهذه المهارات لا تُنافي الطيبة، بل تحفظها وتحميها من الانتهاك والاستغلال.
الخطأ إذن ليس في غرس القيم، ولكن في عدم تزويد القيم بدرع يحميها. ومتى ما أدركنا هذا، يمكن تدارك الأمر.
ثانيًا: الطيبة ليست سذاجة، لكنها تحتاج إلى وعي
النبي – صلى الله عليه وسلم – كان أطيب الناس قلبًا، وألينهم جانبًا، وأكرمهم يدًا، ومع ذلك كان يُحسن التقدير، ويرد بحزم إذا اقتضى الأمر. قال تعالى في وصفه: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، لكنه أيضًا قال: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.
إذًا فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان رحيمًا، لكنه حازم. رؤوف، لكنه يدير العلاقات بذكاء، ويُقدّر النفوس والحدود.
وهذا ما يُعرّفه علماء النفس بـ "الذكاء العاطفي الاجتماعي" (Social-Emotional Intelligence)، وهو قدرة الإنسان على أن يكون طيبًا دون أن يُؤكل، كريمًا دون أن يُستغل، متسامحًا دون أن يُدهس.
ثالثًا: مهارة الحدود ضرورة نفسية واجتماعية
في التربية الحديثة، نعلّم أبناءنا ما يُعرف بـ "فن الحزم الناعم" (Assertiveness without Aggression)، وهو أن تقول: "أنا أقدّر علاقتنا، لكن أحتاج إلى مساحتي الخاصة"، أو "أحب أن أساعد، لكني لا أستطيع الآن."
وهذا ما نفتقده كثيرًا في مجتمعاتنا؛ إذ نظن أن العطاء بلا حدود هو كمال، في حين أن العطاء الحكيم هو الكمال الحقيقي، فلا ندع الآخرين يحرجوننا ويبتزوننا لطيبتنا.
قال عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه-: "لا تكن عبد غيرك، وقد خلقك الله حرًّا."
رابعًا: كيف نوازن الآن؟ وهل تأخرتِ؟
الجواب بكل يقين: حبيبتي أنت لم تتأخري.
الدماغ البشري قابل لإعادة التشكيل، حتى بعد البلوغ، والمعاني تُعاد برمجتها بالتكرار، والتجربة، والحوار.
* ابدئي معهم حوارات هادئة ناضجة، افتحي ملفات الأسئلة:
- ماذا يعني أن تكون طيبًا دون أن تُستغل؟
- كيف نحب الناس ونحترم أنفسنا؟
- ما الفرق بين العطاء الذكي والعطاء العشوائي؟
- كيف نضع "حدودًا عاطفية" دون أن نجرح أحدًا؟
علميهم قاعدة رائعة من القرآن، تعين على الاتزان: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}.
خامسًا: إليك غاليتي خطوات عملية لإعادة التوازن:
1- أدخلي مفاهيم جديدة إلى قاموسهم اليومي، كـ "حماية النفس"، "حسن الظن المتزن"، "الصراحة اللبقة"، "العطاء المسؤول".
2- نمّي لديهم مهارة "الرفض اللبق" (Polite Refusal)، ودرّبيهم على جُمل جاهزة يقولونها عند الحاجة، مثل:
- "أنا آسف، لا أستطيع اليوم."
- "أحتاج وقتًا لنفسي الآن."
- وأن ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام.
3- استخدمي القصص الواقعية لتوصيل الرسائل، ولا تعلّميهم الحذر من الناس، بل علّميهم قراءة الناس، ليجيدوا التعامل معهم.
4- اجعليهم يفهمون أن "نَفْسَك أَحَقُّ بِالصَّدَقَة، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ابدأ بنفسك وتصدق عليها"؛ فالاهتمام بالذات ليس أنانية، بل Self-care وهو ركن مهم في الصحة النفسية.
5- شجّعيهم على بناء دائرة أمان (Supportive Circle) من حولهم، يبقون فيها على من يفهمهم، يقدرهم، يحفظ سرّهم، ويعينهم.
* وهمسة أخيرة إليكِ أختي الغالية:
الأم العظيمة، لا تندمي على الخير، فقط زوّديه بالحكمة، ولا تظني أن التربية تقف عند سنّ الشباب، بل تستمر بالتوجيه، والقدوة، والدعاء.
ما بنيتهِ باقٍ، لكنه يحتاج تعديلًا في الاتجاه، لا هدْمًا للأساس.
وثقي أن أبناءك، وإن تعثروا قليلًا، فهم سيعودون لقيمهم لأن جذورهم ضاربة في الخير.
فسيري على بركة الله، وأبشري، فما علمتِه لن يُنسى، وما غرستِه سيُثمر، وما تخافينه اليوم، سيكون غدًا من أسباب فخرهم بكِ...
لكِ مني كل التقدير، والدعاء.