<p>أنا رجل في منتصف الأربعينيات لدي أربعة من الأبناء وأعمل في وظيفة إدارية ذات راتب محدود ولدي قطعة أرض زراعية صغيرة مستأجرة تدر هي الأخرى مبلغًا محدودًا.</p> <p>دائما ما تتهمني زوجتي بالبخل سواء بالكلام أو بالإشارة، وإذا شاهدنا التليفزيون وجاء مشهد لرجل بخيل تنظر لي وتبتسم، وأبنائي كثيرًا ما يشعرونني بالتقصير رغم أنهم جميعا يعلمون حقيقة دخلي.. يطالبونني ببيع قطعة الأرض حتى تتحسن أوضاعهم المعيشية، وأنا أرى أن هذه الأرض هي الشيء الوحيد الذي نمتلكه هي والشقة الصغيرة التي نسكنها فكيف أفرط فيها بهذه السهولة..</p> <p>لقد تعبت من الدفاع عن نفسي وأنني لست بخيلا ولكنني حريص وأدقق في التفاصيل؛ لأنه لا مساحة لدينا للترف أو الكماليات، وأنا بفضل الله تعالى لم ألجأ أبدا للاستدانة ولا أريد.. ماذا أفعل حتى لا أرى نظرات اللوم والعتاب فلقد أصبحت حالتي النفسية سيئة؟</p>
أخي الكريم، أهلا وسهلاً ومرحبًا بك على البوابة الإلكترونية للاستشارات.. آلمتني رسالتك فهي للأسف أصبحت تمثل واقعًا تعيشه كثير من الأسر وإن اختلفت بعض التفاصيل، وأشد ما يؤلم هو الشعور بالظلم داخل الدائرة المقربة التي كان من المتوقع منها الدعم والاحتواء، ولكنني أريدك ألا تستسلم لهذه المشاعر؛ فالعيش داخل دائرة المظلومية يورث الاكتئاب الحقيقي لا مجرد عسر المزاج، ودعنا نناقش القضية من وجهة النظر الأخرى قبل أن نطلق حكمًا.
نمط المعيشة
أخي الفاضل، نحن نعيش في عصر السماوات المفتوحة حيث يرى الأبناء أشياء وسلعًا وخدمات كثيرة جدًّا ومذهلة ربما تراها أنت كترف وكماليات بينما يرى أبناء هذا الجيل أنها تشبه الضرورة؛ فهم ضحايا زمن العولمة يتعرضون لرسائل إعلانية مكثفة بصورة مباشرة وغير مباشرة تخلق احتياجات لديهم ليست طبيعية أو فطرية لكنها مكتسبة ولكنها ذات طابع حاد نتيجة كثافة التعرض لهذا الإعلام الاستهلاكي الذي تحركه الرأسمالية العالمية التي تهدف في النهاية لصناعة إنسان استهلاكي.
فإذا أضفنا لذلك دائرة الأقارب والزملاء والأصدقاء وما يمثلونه من ضغط غير مباشر على الأبناء لأن هناك ميلاً فطريًّا لدى البشر لتقليد جماعة الرفاق.. وهذا كله يمثل ضغطًا على الأبناء فيبدؤون في التذمر والشكوى أو البحث عن حل كبيع قطعة الأرض ونحو ذلك.
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للزوجة فهي بالإضافة لاحتياجاتها الشخصية يصب الأبناء احتياجاتهم وشكواها إليها، وغالبًا ما تكون هي الجسر الذي عن طريقه تصل طلبات الأبناء أو حتى شكواهم.
يزداد الأمر سوءًا عندما تكون الحاجة المطلوبة هي حاجة حقيقية وليست مصطنعة كمصروفات الدراسة أو أدواتها أو درس في مادة صعبة.. أو قطعة ملابس أساسية.. وهناك أمور من الصعب الجزم هل هي حاجة ضرورية وحقيقية أم لا، فهذه الأمور نسبية فعلاً.. وأنا على يقين أنك لو أنصت إليهم لشعرت أنهم بالفعل بحاجة لكذا وكذا من الحاجات على سبيل الحقيقة لا الترف.
لا أعتقد أنك مختلف معي في هذا، ولكن المشكلة أن الدخل بالفعل لا يكفي هذه الحاجات، وهذه نقطة سأناقشها معك بعد قليل.. لكن ما أهدف إليه في هذه النقطة أن تستشعر أن الزوجة والأولاد يمرون بضغوط عديدة بعضها حقيقي وبعضها مصطنع من هذه الآلة الإعلانية التي تمثل القوة الناعمة للرأسمالية.
والهدف من شعورك أنهم هم أيضًا واقعون في دائرة الضغوط أن تعذرهم فيما يقومون به من سلوكيات وتلتمس لهم بعض العذر، فإن كنت أنت يطاردك شبح المظلومية فهم أيضًا يطاردهم هذا الشبح وهم يشعرون أنهم يعيشون في نمط معيشي منخفض عن جماعة الأقران.
أخي الكريم، تذكر طفولتك ومراهقتك كيف كانت أبسط، لكنني أريدك أيضًا أن تذكر كل دائرتك المقربة وقتها ستجدهم يعيشون الحياة البسيطة نفسها، أليس كذلك؟ فليس من العدالة المقارنة بين نمط المعيشة الذي عشته في الماضي وبين النمط الذي تريدك أسرتك العيش فيه في اللحظة الراهنة.
بين الحوار والمصارحة
يمكننا إذن القول إن الجميع يعاني من الضغوط، ولكن كل طرف يعيش مستغرقًا داخل دائرته الخاصة متصورًا أنه واقع داخل دائرة الظلم وحده، ونحن نريد لهذه الدوائر أن تتقارب ويحدث بينها اتصال فعال، وهذا لن يأتي إلا بأمرين اثنين:
الأول هو المصارحة:
كثير من الرجال يفضلون عدم ذكر دخلهم بالتحديد وبعضهم يقلل منه.. ربما يكون الهدف من ذلك هو تقليل سقف المطالب، وربما تكون مجرد عادة مكتسبة لحماية الخصوصية المالية، وفي حالتك هذه وأنت متهم بالبخل فعليك أن تستخدم سلاح الصراحة والشفافية، فمن الوارد جدًّا أنهم يعتقدون أن معك وفرة مالية ورغم ذلك تحاسبهم بدقة وترفض كثيرًا من المطالب؛ لذلك فالصراحة هنا تضع المشكلة في حجمها الحقيقي دون تهوين أو تهويل.
الثاني هو الحوار:
فالمصارحة وحدها لا تكفي.. لا بد أن يتشارك الجميع في وضع حل.. مثلا قد ترغب الزوجة أن تتحمل مصروف البيت وأنت لن تستطيع منحها أكثر من مبلغ محدد تتفقون عليه.. هنا أنت تضعها مع المشكلة وجهًا لوجه.. هي لن تتهمك بالبخل وفي الوقت ذاته ستدرك حجم المسؤولية وقد تدهشك أنها استطاعت تدبير الأمر، فإحساسها بالمسئولية سيتضاعف وقد تكون أولوياتها في الإنفاق مختلفة عنك، فأنت هنا ترضي شعورها بأنها تملك المال في يدها وتمنحها فرصة تدبير الأمر والتعامل مع الاولاد.
نفس الأمر مع الأولاد.. كل ابن له ميزانية معينة للملابس واضحة بالنسبة له سيبحث هو بنفسه عما يحتاجه في حدود ما يملكه.. وهكذا بالنسبة للمصروف الشخصي لكل ابن بدلا من أن يطلبون منك ثم أنت تحاسبهم بدقة.. لا اعطهم المال وهم يتحملون المسؤولية.. حتى الأطفال الصغار يمكن على نحو ما تدريبهم على المسؤولية المالية.
حتى موضوع بيع الأرض يتم طرحه على طاولة الحوار، وعليك أن تقنعهم أن هذه الأرض هي للأسرة كلها وأنك تحتفظ بها في مواجهة الأزمات والشدائد التي قد تتعرضون لها.. حاول إقناعهم وكن حازمًا في الوقت ذاته، وضع الجميع أمام المسئولية المالية، وحاول من خلال الحوار أن توسع أفقهم حتى لا يكونوا ضحايا للحاجات الوهمية.
التواصل الدافئ
هذه المصارحة وهذا الحوار الأسري ليس حوارًا جافًّا باردًا يشبه حوارات العمل، وإنما لا بد أن يحدث تحت ظلال المشاعر الدافئة.. أنت بحاجة أن تمتلك القدرة على التعبير العاطفي فلا بد أن تبدأ حديثك بابتسامة وأن يصل إليهم كم أنت تحبهم والزوجة بالذات بحاجة أن تشعر بالإشباع العاطفي فهناك علاقة وثيقة تربط بين الحب والمال...
لا تندهش من قولي هذا فعندما يتهم شخص ما بالبخل دائما ما يقال إنه شحيح في كل شيء في العواطف والمشاعر والأمور المادية فكأنما الرفاهية العاطفية تقلل الإحساس بالحاجة للمال الأجواء الدافئة داخل الأسرة تجعل الحوار فعال ويحقق أهدافه وأيضًا تشبع احتياجات نفسية مهمة تقلل من الإحساس بالاحتياج المالي؛ فكثير من الحاجات المالية تأتي لإشباع حاجات نفسية غير مشبعة.. على سبيل المثال دائما ما يركز إعلان الشيكولاتة على امرأة في حالة مزاجية متوترة فتأكل قطعة من الشيكولاتة فتنقلها لحالة نفسية أخرى.. الإعلان هنا يستثمر الحاجات النفسية غير المشبعة بشكل مباشر.
المقصد -أخي الكريم- أن حضورك العاطفي في حياة أسرتك يقلل بالفعل من الشعور بنقص بعض الاحتياجات المادية ويجعل الحوار بينكم سلسًا وأكثر فعالية.
وفي هذا السياق لا بد أن تعبر عما يزعجك وأن تخبر زوجتك أنك لا تستسيغ مزاحها الذي يضعك في خانة البخلاء بينما أنت تبذل قصارى جهدك كي تسدد احتياجات الأسرة وفي الوقت ذاته تحافظ على وضعها الاجتماعي فلا تلجأ للديون من أجل حاجات استهلاكية، وهذا جدير بالاحترام منها لا السخرية.. وكما هي لا تحب المقارنات ولا تحب التقليل من مكانتها أنت كذلك بحاجة للتقدير.. كن واضحًا في التعبير عن احتياجاتك ورفض أي استهزاء يمس شخصيتك..
وكلما كنت قادرًا على منحها مشاعر دافئة كانت حريصة ألا تغضبك، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ} [النساء: ٣٤]، فالعظة تتمثل في الحوار، والهجر لن يكون مجديًا إلا إذا كانت العلاقة دافئة فيكون الابتعاد والانسحاب والصمت ذا تأثير وفعالية.. منحك الله الصبر الجميل ورزقك القوة والطاقة والمرونة لتحمل كل التزاماتك وأسعد الله حياتك، وتابعنا دائمًا بأخبارك.