<p>أنا أمٌ لأربعة أبناء، ثلاثة أولاد وابنة واحدة هي أصغرهم، تبلغ من العمر أربع عشرة سنة وتدرس بالصف الثاني الإعدادي. منذ نعومة أظفارها، كنت أحاول تعويضها عن كونها البنت الوحيدة بين إخوتها الذكور، فأغدقتُ عليها بالحب والدلال، وكنت أُلبي معظم طلباتها بلا تردد، حتى أصبحت تحصل على ما تريد قبل أن تطلبه أحيانًا<span dir="LTR">.</span></p> <p> </p> <p>ولكن، ويا للأسف، جاءت النتيجة عكس ما تمنيت. فقد أصبحت فتاة شديدة العناد، ضعيفة المستوى الدراسي، لا تبدي أي حرص على مستقبلها، ولا تهتم بي كأم، بل تتجنب مساعدتي في أعمال المنزل وتفتعل الأعذار، وقد تطور الأمر حتى إنها أصبحت ترفع صوتها عليّ، وتستخدم ألفاظًا لا تليق، بل وتخاطبني أحيانًا بأسلوب جارح ومهين<span dir="LTR">.</span></p> <p> </p> <p>المفجع أنني عثرتُ أكثر من مرة على أوراق كتبتها بخط يدها تقول فيها: "أكره أمي... لا أحب أن أراها... أتمنى أن تختفي من حياتي"، وكلما قرأت هذه الكلمات شعرت بأن قلبي يُنتزع من بين أضلعي<span dir="LTR">.</span></p> <p> </p> <p>زوجي الذي كان يدللها دومًا بدأ يضيق بأسلوبها، وبدأ يرفع صوته عليها. أشعر أنني فشلت كأم، وبتُّ عاجزة عن الوصول إليها أو تغييرها. أرجو منكم النصيحة، وادعوا لي بالهداية والصبر، فقد أنهكني الحزن<span dir="LTR">.</span></p>
أختي الكريمة،
أشعر تمامًا بمرارة الألم الذي تعانينه، وأتفهم حجم القهر الذي يعتصر قلبك، وحقيقي كان الله بعونك؛ فالأم عندما تُقابل الحب بالتنكر، والعطاء بالجحود، تشعر كما لو أن الدنيا قد انقلبت بها. ولكن اسمحي لي أن أضع يدك على مواضع الألم من منظور تربوي ونفسي، علّ الله يجعل في هذا النور مخرجًا.
أولًا: ما تمرين به ليس أمرًا نادرًا في بيوت كثيرة، بل هو ما يُعرف في علم النفس التربوي بـ"التمرد المراهق" (Adolescent Rebellion)، وهي مرحلة حرجة من النمو النفسي والوجداني تمر بها الفتيات والفتيان، ويصحبها غالبًا اضطراب في المشاعر، ورغبة في إثبات الذات، ورفض للسلطة الوالدية.
لكن تمرد ابنتك ليس عذرًا لما تقوله أو تفعله، بل هو عرضٌ لألم أعمق، أو خللٍ في العلاقة نشأ عبر السنوات، ربما بسبب الحماية الزائدة، أو الدلال المفرط (Overindulgence)، أو غياب الحزم المتوازن في التربية.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته"، والرعاية هنا لا تعني فقط الحنان، بل الحكمة في التقويم، والعدل في التعامل، والحزم في مواضعه. فلقد قال أيضا صلى الله عليه وسلم: "رحم الله والدًا أعان ولده على بره".
كما أن عمرها الآن هو مرحلة ما نسميه "الانتقال الوجداني"، حيث تكون الفتاة في صراع بين حاجتها للاستقلال واعتمادها على الأم. وكثير من الأبناء لا يُحسنون التعبير عن مشاعرهم، فيتحول الحب العميق إلى رفض ظاهري، أو حتى كلمات جارحة. وقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ربوا أبناءكم على غير ما ربيتم عليه، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم."
ثانيا: إليكِ –يا أيتها الأم الصابرة– بعض الخطوات العملية المبنية على أسس علمية وتربوية ودينية:
أولًا: أوقفي التفسير القاتل
تفسيرك أن ابنتك تكرهك وتكره حياتها معك هو ما يزيد الجرح عمقًا. حاولي أن تنظري للأمر من زاوية أنها تصرخ طلبًا للحب، ولكن لا تعرف كيف تطلبه. حتى وإن أخطأت التعبير أو إيصال مشاعرها، فقد تكون وعن قصد هي من تضع أمامك كلماتها السلبية هذه لكى تقرئيها، حينما تكون في داخلها ضائعة، وتشعر بالظلم، أو بالمقارنة مع إخوتها، أو بعدم الفهم.
ثانيًا: أعيدي بناء العلاقة من جديد
حاولي أن تقتربي منها، لا كأم فقط، بل كصديقة حكيمة. اجلسي معها جلسة هادئة، ليس فيها عتاب، بل استماع... فقط استماع. قولي لها مثلًا: "أريد أن أفهمك، لا لألومك، بل لأشعر بك."
ثالثًا: ضعي قواعد تربوية واضحة
واعلمي أن الحب لا يتعارض مع الحزم. ضعي قوانين أسرية (Family Rules) محددة بوضوح، مثل: "لا يُرفع الصوت"، "الاحترام واجب"، "المساعدة في المنزل جزء من مسؤولياتنا". اجعلي هذه القواعد شاملة لكل الأبناء، حتى تشعر بالعدالة، لا بالتمييز.
رابعًا: أدمجيها في مهام تُشعرها بالإنجاز
كثير من البنات في هذه السن يبحثن عن قيمة ذاتية. أعطيها مهام مثل الطهي، ترتيب شيء في البيت، تنظيم حفلة بسيطة... وامدحي إنجازها حتى لو كان بسيطًا.
خامسًا: الجئي إلى العلاج بالحب غير المشروط
أظهري لها حبك دون انتظار مقابل، احتضنيها كل ليلة وقولي لها: "أنا أحبك، حتى عندما أغضب منك". هذه الجملة تسقط جدارًا كبيرًا من التوتر.
سادسًا: ادفعيها للعطاء
شاركيها في عمل خيري، زيارة مريض، رعاية طفل... ليشعر قلبها بلذة العطاء، فتتوازن نفسيًّا.
سابعًا: الدعاء ثم الدعاء
لا تملي –غاليتي- من الدعاء، ولا تيأسي من رحمة الله، فقد قال سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. وقد قيل: "رب دعاءٍ في جوف الليل غيّر الأقدار."
ثامنًا: إن استطعت يمكن أن تستعيني بمستشارة تربوية كي تعد لك خطة تربوية أسبوعية تساعدك في إعادة ضبط العلاقة بينك وبين ابنتك، أو نصًّا تقرئينه معها أو تكتبينه إليها، يُليّن قلبها إن شاء الله تعالى.
* همسة أخيرة:
تذكّري قول القائل: "تأنيب قلب الأم إن جار الفتى خير له من ضحك صديق خادع"؛ فأنتِ الملاذ، وأنتِ الجذر الذي ستعود إليه مهما ابتعدت عنك بإذن الله تعالى.
أسأل الله لابنتك الهداية وأن يؤلف بين قلبيكما، وأن يعينك على تربية أبنائك على النحو الذي يرضيه عز وجل.