<p>أنا فتاة في الثانية والثلاثين من العمر، ملتزمة وأعمل بشكل مؤقت، والدي طبيب وأمي معلمة، تزوجت أختي الصغرى وتزوج أخي الأصغر كذلك، وعندهم أطفال. تمت خطبتي مرتين وتم فسخهما لعدم ارتياحي لأي منهما، حيث أحدهما كان صاحب شخصية ضعيفة جدا، لا يقدر على اتخاذ قرار، ويحتاج مني المبادرة دائما، وأنا حلمي رجل أعتمد عليه ولا يعتمد هو علي. وأما الآخر فكان طبيب، لكن بالتعامل القريب ظهرت شخصيته الحقيقية في ماديته البحتة، فهو لا يريد زوجة بقدر ما يريد مدخل أموال، كم سأدخل من مال، وبكم سأساهم في مصروف البيت، وحين حدثته برغبتي للتفرغ لتربية أبنائي خاصة في بداية حياتهم الأولى رفض تماما، بحجة أن دخله في السنوات الأولى لن يكفي لتوفير حياة كريمة، ويجب علي الاستمرار في العمل من أجل أبنائنا المستقبليين، لم أسترح لطريقته فتركته بينما كنا على وشك الزواج. ثم تقدم بعده شباب رفضتهم لأسباب أخلاقية، فمنهم من يدخن أو يتعاطى أشياء محرمة أو ذا سمعة سيئة مع البنات وعلاقاته مفتوحة وهكذا. في السنوات الثلاثة الأخيرة لم يتقدم أحد يصلح لأن يكون زوجا ملائما حتى مع تنازلي عن بعض الشروط التي كنت قد وضعتها سابقا، أرى من حولي فتيات صغيرات يتزوجن وينجبن أطفال، ولا يخفى على حضراتكم نظرات الأقارب ودعواتهم ومصمصة الشفايف، أشغل نفسي بالعمل وحفظ القرآن وأخذ دورات لتنمية ذاتي، وفي نفس الوقت أعيش حياة مرفهة في بيت والدي اللذان لا يبخلان علي بشيء في محاولة لتعويضي، ومع ذلك يملأ الحزن قلبي وأشعر أن هناك شيئا كبيرا ينقصني كفتاة كان لها يوما حلم ببيت وزوج وأبناء، فدلوني بالله عليكم ماذا أفعل؟</p>
بعد الحمد لله، والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد صلى الله على وسلم، فلقد طرقتِ باب أهل حبيبتي، فمرحبًا بك في باب استشارات بمجلة المجتمع، وأهلا بكِ في كل وقت، وقد لمست شكواكِ شغاف قلوبنا، وتناقشنا فيها كإشكالية تمس معظم بيوت المسلمين في هذا الزمان، وعزاؤك أنكِ لستِ وحدك حبيبتي، فمعظم الخيرين والخيرات قد مسهن نصب من هذا الابتلاء، ندرك تمامًا حجم المعاناة التي تعيشينها وأنت الفتاة الملتزمة الحيية التي تحجب نفسها وقلبها عما حرّم الله، رغم الصبا والشباب والفطرة التي تستلزم إشباعًا إنسانيًّا شرعه الله عز وجل وأحله ويسر له سبيلاً بالزواج، وأنتِ قد حفظت قلبك، ونرجو من الله أن يرسل لكِ من حفظ قلبه وعف نفسه حتى ييسر الله له.
ولتعلمي ابنتي أن مسألة الزواج هي مسألة قدرية تمامًا، وجعل الله عز وجل الإيمان بالقدر خيره وشره ركنًا من أركان الإيمان «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»، وهو من القدر المكتوب في اللوح المحفوظ لما ورد في صحيح مسلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء»، فالتسليم المطلق لقدر الله والرضى به دون جزع مع اليقين بالجبر والترضية الربانية هو جزء من إيمان المسلم.
فما أنتِ فيه قد ترينه شرًا، وفيه محض الخير، هو فرصة لأعمال أخرى أمهلك الله سبحانه قبل الانشغال بالزوج والأبناء كي تتميها، الطريق الذي سلكته هو الطريق الصحيح، العمل على تنمية ذاتك، حفظ القرآن الذي لن يتسنى لك حفظه في حال الانشغال بالأسرة، الاستمتاع بالحياة نفسها وبصحبة والديك في حياتهما قبل الحرمان منهما للانشغال أو فراقهما الحياة أطال الله بقاءهما، كل ما أنتِ فيه هو نعمة لن تدركيها حتى تنتهي تلك الفترة وتنتقلي لبيت آخر، ولتطيب نفسك:
ـــ تقبلي وضعك (رغم صعوبته ومرارته التي نشعر بها في حلوقنا)، فلا تقارني نفسك بالآخرين، أخواتك وصديقاتك، كل إنسان له ظروفه وابتلاؤه، وكل ميسر لما خُلق له، وإذا قارنتِ نفسك بالآخرين، فقارنيها بمن ليس لديهن عائلة تدعمهن، وبمن تاه بهن الطريق عن رب العالمين، وبمن عجزن عن حفظ أنفسهن بالله ولله، فانحرفن عن الطريق.
ــــ راجعي غايتك من الزواج، هل هو بناء أسرة لتكوين مؤسسة ربانية وتحقيق معنى العبودية لله في الأرض؟ أم أن الزواج كي يقول الناس لقد تزوجت، وقد أنجبت؟ إذا كان الأول فلن ينفعك أي زوج، وتريثي، واقبلي قدر الله واعلمي أن التأخير فيه خير، هو مقدمة الامتحان والزواج جزء منه، مرحلة من مراحله، انتظار الزوج المناسب الذي يتقي فيك ربه، ثم يأتي ليتخذ الامتحان شكلاً آخر في طاعته وحسن تبعله، ثم حسن تربية أبنائك وحفظك للأمانة، فالحياة كلها اختبارات، ولن تُطوى الورقة بمجرد الزواج، إنما هي أسئلة عليكِ جوابها مكتملة، وكل فعل هو جواب، وكل رد فعل هو جواب، صبرك على تأخرك في الزواج سؤال في امتحان الله لكِ، في الوقت الذي يمتحن فيه آخرون بطاعتهن لأزواجهن، وهكذا...
فلا تتنازلي؛ لأن عدم تنازلك هو جواب لسؤال الله لك عن مدى رؤيتك للزواج ذاته، تمسكي بشروطك في أن يكون الزوج المستقبلي إنسانًا ملتزمًا على خلق يحمل كل صفات المسلم دون تنازل، وكوني على ثقة من عطاء الله وكرمه، ولنستمع لقول الحبيب: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" رواه الترمذي.
ـــ تقولين إنك تعملين رغم يسر حال والديكِ، وهذا أمر جيد، للتعارف على طبيعة الناس وكسب خبرات اجتماعية في غير اختلاط.
ــــ عيشي اللحظة التي أنتِ فيها، لا تجعلي التفكير في الزواج هو محور حياتك، المطلوب أن تكوني سعيدة وراضية، دعي الاهتمام بالزوج حين يأتي، والآن اهتمي بكونك تنفردين بوقتك وحدك، تملكينه كله، فلتفعلي كل ما يطيب لك داخل إطار الشرع.
ـــ لا مانع أبدًا من أن تكون هناك قريبة، أو صديقة، أو أخ، تبثينه رغبتك، أو توصينه بأن يدل من يريد الزواج بملتزمة، فذلك في العرف معروف، وفي الشرع مباح، بل وقد يرقى لدرجة الواجب، شرط ألا يمس حياءك، أو ينال من كرامتك، وهذا سيحدث إذا كان المفوض أمينًا محبًّا.
ــــ وأخيرًا، عليك بالتوكل الكامل على الله عز وجل، والدعاء والإلحاح عليه سبحانه، فلا يأس مع الدعاء، لا يأس مع رب كريم، لا يأس مع من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لا يأس مع من خزائنه ملء السماوات والأرض.
وتلك المشكلة وغيرها صرخة مجتمعية لأولياء الأمور أن يرحموا ضعف أبنائهم، ويدركوا خطورة أن يتركوهم للحرمان في ظل سهولة الحرام من حولهم، فليخفضوا المهور، وييسروا الزواج، ويتساهلوا في تجهيز منازل الزوجية، تنفيذًا لأمر نبيكم فيما رواه الإمام أحمد: "إِنَّ أَعْظَمَ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مُؤْنَة"، فلنتق الله في أبنائنا، ومستقبل أمتنا، وانتبهوا، فإن الأمر جد خطير.