الإستشارة - المستشار : د. مسعود صبري
- القسم : دعوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
126 - رقم الاستشارة : 1115
25/02/2025
صديقي مهتم بالإسلام.. ولديه شبهات السلام عليكم ورحمة الله.. منذ شهر تقريباً لاحظت أن زميلي في العمل -وهو أوكراني الجنسية- مهتم بالإسلام، وأعطيته ترجمة للقرآن باللغة الروسية، وقال لي بعد ذلك: إنه قريب جداً من الإسلام كمعاملات، وأحس أنه يقترب جداً، ولكن هو لا يؤمن بوجود الله، ويسألني أسئلة لم أفكر بها مسبقاً، مثل: إذا كان الله يعرف كل شيء، فلماذا يختبر الإنسان مثلاً في أن يموت ولده؟ حاولت أن أجيبه، ولكن لأني مؤمن بالله لا أستطيع إقناعه. وقال لي: إن استطعت أن تجيب عن الأسئلة التي تدور في خاطري فإني قريب جداً لكي أؤمن. سؤالي هنا: ماذا أفعل؟ أعليَّ ذنب إذا تركته؟ وهل أن الله يهدى من يشاء في هذه الحالة؟ وكيف يختار الله من يهديه إلى الإيمان به؟ وهل هناك اختيار من الله بهداية أشخاص معينين، أم إذا تقرب الشخص إلى الله يهديه؟ فإني والله أخشى أن تزهق هذه النفس كافرة ولا أستطيع عمل شيء لها، وخصوصاً أنني أحسبه على خُلق.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أخي الكريم أهلا وسهلا ومرحبا بك..
- أما عن شبهة: إذا كان الله تعالى يعرف كل شيء، فلماذا يختبر الإنسان، مثل أن يفقده ولده؟
فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقنا، وجعل من حكمة الخلق أن يتعبد الناس إليه بالتوحيد، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، وجعلهم في اختبار في هذا لينظر من الطائع فيجازيه بالإحسان إحساناً، ومن العاصي فيجزيه بسوئه إن شاء سوءاً، قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10)، أي أوضحنا للإنسان طريق الخير وطريق الشر، وهو الذي يختار، سبحانه (لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس: 44).
إن الله تعالى لا يجبر أحداً على كفر أو إيمان، ومع هذا فهو يعلم من الذي سيؤمن ومن الذي سيكفر، ومن الذي سيطيع ومن الذي سيعصي؟ لكن دون أن يتدخل الله تعالى في أن يجبر أحداً على معصية، فكيف ينهى عباده عن المعصية ثم يجبرهم عليها؟ حاشا لله، بل العكس يحدث: أن الله تعالى يغلق على الإنسان كثيراً من أبواب الشر، ويحول بينه وبين معصية، لكنه إن أصرَّ على فعلها تركه الله وما يريد؛ لأن الإنسان في الدنيا في دار ابتلاء واختبار وامتحان، ولا منافاة بين علم الله تعالى بما سيحدث، وبين اختباره للناس.
ثم إن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الناس، ومن حقه سبحانه وتعالى أن يختبرهم.. فنحن خلقه وعبيده؛ ومع هذا فقد كتب ربنا سبحانه وتعالى على نفسه العدل؛ فهو لا يظلم من عباده أحداً، ومع هذا فهو يعاملنا بالفضل لا بالعدل، ومن المعلوم أن الفضل درجة أعلى من العدل، قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) (فاطر: 45).
وهناك حِكم للاختبار والابتلاء، فقد يكون الابتلاء تكفيراً للذنوب، أو رفعاً للدرجات.
وفيما يخص ابتلاء فقْد الأبناء، فقد وردت آثار تدل على بعض الحكم والأسرار، من ذلك:
أن فقد الأبناء وصبر الآباء طريق إلى جنة الله تعالى؛ لصبرهم وإيمانهم بقضاء الله وقدره، وعدم جزعهم لما أصابهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة، نودي في أطفال المسلمين أن اخرجوا من قبوركم، فيخرجون من قبورهم، ثم ينادى فيهم: أن امضوا إلى الجنة زمراً، فيقولون: يا ربنا ووالدينا معنا؟ فيقول في الرابعة: ووالديكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه، فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنّة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم في بيوتكم» (خرجه أبو نعيم، من طريق الطبراني).
وأخرج الترمذيّ بسند حسن عن حماد بن سلمة عن أبي سنان يعني عيسى بن سليمان القسمليّ قال: دفنت ابني سناناً، وأبو طلحة الخولاني جالس على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فقال: ألا أبشرك يا أبا سنان، قلت: بلى، قال: حدثني الضحاك بن عبدالرحمن بن عزرب عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد قال الله عز وجل لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول سبحانه: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول سبحانه، وهو أعلم: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد».
بل إن الإنسان إذا أصيب بشيء كفقده ولده العزيز عليه وصبر، فكلما تذكره واسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فإن الله تعالى يجدد له الثواب الجزيل، وفي ذلك أخرج ابن ماجه، وأحمد، عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكرها -وإن قدم عهدها- فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدد الله تبارك وتعالى له عند ذلك مثل أجرها يوم أصيب».
ثم إن فقْد الأبناء من الأمور الطبيعية في الدنيا؛ لأن الموت لا يعلمه إلا الله تعالى، فالموت ليس له كبير ولا صغير، وليس الذين يصبرون هم العلماء والفقهاء والوعاظ وحدهم، فالتاريخ يحكي عن بعض النساء أنهن صبرن على فقْد ولدهن واحتسبنه عند الله انتظاراً للأجر والمثوبة منه سبحانه وتعالى، ولأن الفقْد شيء إنساني، ولكن الدين يجعل الإنسان راضياً بما يحدث، ويدخر الله تعالى له الثواب في الآخرة بما صبر.
فقد جاء في كتاب «برد الأكباد عند فقد الأولاد» لابن ناصر الدمشقي: أن عبدالملك بن قريب الأصمعي قال: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدنا نحوها فسلمنا، فإذا امرأة تردّ علينا السلام، قالت: من أنتم؟ قلنا: قوم ضللنا الطريق، رأيناكم فأنسنا بكم، فقالت: يا هؤلاء، ولّوا وجوهكم عني، حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت إلينا مسحاً، فقالت: اجلسوا عليه، إلى أن يأتي ابني، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة، وتردها إلى أن رفعته مرة، فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ولدي، وراكبه فليس بولدي، قال: فوقف الراكب عليها، وقال: يا أم عقيل، أعظم الله أجرك في عقيل ولدك، فقالت: ويحك مات ولدي، قال: نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل، فرمت به في البئر، فقالت: أنزل وأقضي أمام القوم، ودفعت إليه كبشاً، فذبحه وأصلحه، وقرّب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا، وقالت: يا قوم، هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله عز وجل شيئاً، قال الأصمعي: قلت: نعم؟ قالت: فاقرأ عليَّ آيات أتعزّى بها عن ولدي، قلت: يقول الله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة)، قالت: آلله إنها لفي كتاب الله، هكذا؟ قلت: آلله هكذا في كتاب الله، فقالت: السلام عليكم، ثم صفت أقدامها وصلّت ركعات، ثم قالت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعند الله احتسب عقيلاً.
ثم قالت: اللهم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني، ولو بقي أحد لأحد.. قال الأصمعي: فقلت في نفسي سوف تقول: لبقي ابني لحاجتي إليه؛ فقالت: ولو بقي أحد لأحدٍ لبقي محمد صلى الله عليه وسلم لحاجة أمته إليه، فخرجت وأنا أقول: ما رأيت أكمل منها، ولا أجزل، ذكرت ابنها بأحسن خصاله، وأجمل خلاله رحمه الله، ثم لما علمت أن الموت لا مدفع له، ولا محيص عنه، وأن الجزع لا يجدي نفعاً، وأن البكاء لا يردّ هالكاً، رجعت إلى الصبر الجميل، واحتسبت ابنها عند الله عز وجل، ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة.
نفع الله بك وجعلك من الهداة المهديين.. اللهم آمين.