Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 172
  • رقم الاستشارة : 1315
13/03/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أشعر بسأم شديد من الحياة، ليس بسبب ضيق الرزق أو الابتلاءات، فالحمد لله أموري المادية والاجتماعية مستقرة، ولكن ما يؤلمني هو ما أراه من انحدار القيم وتدهور الأخلاق، وتكالب الناس على الدنيا دون مراعاة للحق أو العدل، حتى بات التعامل بالحسنى نادرًا. أشعر بغربة شديدة وكأنني لا أنتمي لهذا الزمن، وهذا جعلني أتساءل: هل يجوز لي أن أتمنى الموت هربًا من هذه الفتن؟ وما هو التوجيه الشرعي في مثل هذه الحالة؟ جزاكم الله خيرًا.

الإجابة 13/03/2025

مرحبًا بك أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن يربط على قلبك، وأن يرزقك سكينة الإيمان وطمأنينة الرضا، وأن يثبتك على الحق، ويعينك على ما تجد في نفسك، وبعد...

 

فإن الشعور بالغربة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن وانحدرت فيه القيم، هو شعور طبيعي لكل من يحمل في قلبه نور الإيمان، فقد أخبرنا النبي ﷺ بذلك بقوله: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء» [رواه مسلم]. وهذه الغربة التي تشعر بها ليست دليلاً على ضعف، بل على بصيرةٍ أكرمك الله بها، فأنت ترى ما لا يراه الغافلون، وتشعر بما لا يشعرون به. ولكن، هل يعني هذا أن نتمنى الموت هربًا من هذه الفتن؟

 

أولًا- حكم تمني الموت

 

لقد نهى النبي ﷺ عن تمني الموت بسبب الشدائد التي يمر بها الإنسان، فقال: «لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضرٍّ نزل به، فإن كان لا بدَّ فاعلًا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» [متفق عليه].

 

وهذا الحديث يدل على أن الأصل في المؤمن ألا يتمنى الموت؛ لأن الحياة فيها فرص عظيمة لزيادة العمل الصالح، والتقرب إلى الله، والصبر على البلاء، وهو باب من أبواب الأجر العظيم.

 

وقد ورد في الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» [رواه البخاري]. فكيف يزهد المؤمن في الحياة، وهي ميدان التقرب إلى الله؟

 

ثانيًا- هل يجوز تمني الموت بسبب الفتن؟

 

لا شك أن الفتن مؤلمة، ولكن المؤمن يواجهها بثبات، مستعينًا بالله، كما قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: 127].

 

وقد سأل الصحابي حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- النبيَّ ﷺ عن الفتن، فأخبره بها، لكنه لم يأمره بتمني الموت، بل أرشده إلى سبل النجاة: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، فقال حذيفة: فإنْ لَمْ يَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ ولَا إمَامٌ؟ قالَ ﷺ: «فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ بأَصْلِ شَجَرَةٍ، حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأَنْتَ علَى ذلكَ» [متفق عليه].

 

وإذا كان الفساد قد عمَّ، فإن في الأمة بقية صالحة، كما قال النبي ﷺ: «لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وفي رواية: وهُمْ كَذلكَ» [رواه مسلم]. فلا تحزن أخي، فأنت لست وحدك.

 

ثالثًا- كيف يواجه المؤمن هذه المشاعر؟

 

1. الاستعانة بالله والإكثار من الدعاء: فالله لا يضيع عباده، وقد قال سبحانه: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2].

 

2. الصبر واحتساب الأجر: فالنبي ﷺ أخبر أن من يصبر على الفتن ويثبت على دينه، له أجر عظيم، فقال: «إنَّ مِنْ ورائِكُمْ أيامَ الصبرِ، الصبرُ فيهِنَّ كَقَبْضٍ علَى الجمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهَا أَجْرُ خَمْسِينَ»، قالوا: يا رسولَ اللهِ، أجْرُ خمسينَ منهم أَوْ خمسينَ مِنَّا؟ قال: «خمسينَ مِنْكُمْ»  [رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن غريب].

 

3. الاشتغال بالعمل الصالح وعدم الاستسلام للحزن: من وسائل النجاة من الفتن أن يشتغل العبد بعبادة الله بالعمل الصالح، وبإصلاح نفسه ومن حوله، فقد قال النبي ﷺ: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطَع اللَّيل المُظلم» [رواه مسلم].

 

4. صحبة الصالحين وعدم العزلة التامة: فمن أعظم ما يثبت القلب في زمن الفتن، أن يكون الإنسان قريبًا من الصالحين، فقد قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: 28].

 

وختامًا، أخي الكريم، تذكَّر أن الحياة دار ابتلاء، وأن المؤمن الصادق لا يفرُّ من ميدان الجهاد في سبيل الحق، بل يثبت ويحتسب الأجر، ويتوكل على الله. واعلم أن الله يراك، ويعلم ما في قلبك، وهو أرحم بك من نفسك. فلا تدَع اليأس يتسلل إلى قلبك، وثِق بأن النور باقٍ، ولو كثر الظلام.

 

نسأل الله أن يثبتك، ويرزقك السكينة، وأن يجعل لك من أمرك فرجًا ومخرجًا، وأن يجعلك من عباده الصالحين الذين يستعملهم في طاعته، لا ممن يستبدلهم، وأن يكتب لك حسن الخاتمة على طاعته. آمين.

 

الرابط المختصر :