الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : تاريخ وحضارة
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
120 - رقم الاستشارة : 2281
04/08/2025
هل شاركت المرأة في صنع الحضارة الإسلامية وفي نهضتها العلمية أم أنها لم يكن دور في هذا المجال؟
أخي الكريم، يظن البعض أن المرأة كانت بعيدة عن حقل العطاء والإنتاج والإبداع في الحضارة الإسلامية، لكن هذا الظن غير صحيح، فالمرأة كانت حاضرة وفاعلة، وكان حضورها في المجالات العلمية المختلفة، وإن تركز في جانب العلوم الدينية.
ولعل المقارنة بعدد النساء المسلمات العالمات في قرن ما –قبل عصور التراجع الحضاري- وبين عدد النساء العالمات في حضارة أخرى، سيكشف الحضور الكبير للمرأة المسلمة، التي لم تكن حبيسة البيت أو القبر، كما يروج المستشرقون ومن يسير خلفهم.
ومن المجالات العلمية التي شاركت فيها المرأة مجال الإفتاء، الذي يعتليه ذوو العلم والعقل، والذين يجمعون بين التبحر في العلم، وبين فهم الواقع، والقدرة على تنزيل الحكم الشرعي على النوازل والمستجدات.
ومن ثم فالإفتاء لم يكن حفظًا للمتون والحواشي فقط، ولكن قدرة عقلية عملية بجانب العلم قادرة على تحريك وتفعيل تلك النصوص والمتون في حياة الناس، بحيث لا ينفصل الناس عن عقيدتهم وشريعتهم.
كان للمرأة حضور في مجال الإفتاء منذ العصر النبوي، وكما ذكر العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه "إعلام الموقعين" أن "الذين حُفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله ﷺ مئة ونيف وثلاثون نفسًا، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة"، وذكر منهم أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها.
وذكر "ابن القيم" كذلك أن عدد المفتيات من النساء كان (22) مفتية تصدرتهن أمهات المؤمنين، عائشة، وأم سلمة، وصفية، وحفصة، وأم حبيبة، وجويرية، وميمونة رضي الله عنهن، ثم تلتهن أم عطية، وليلى بنت قانف الثقفية، وأسماء بنت أبي بكر، وأم شريك، وأم الدرداء الكبرى، وعاتكة بنت زيد بن عمرو، وسهلة بنت سهيل، وغيرهن.
وتأمل -أخي الكريم- ما قاله الحاكم النيسابوري -وهو من كبار المحدثين في القرن الرابع الهجري- عن "عائشة رضي الله عنها أنه "حُمل عنها ربع الشريعة"، أي أن ربع أحكام الشريعة جاءت من طريق مرويات عائشة، والتي يذكر علماء الحديث أن لها في الصحيحين أكثر من (170) حديثًا أغلبها متعلق بالأحكام الشرعية.
وقد تلقى عدد من النساء علم الفتيا عن عائشة، فمن أهل بيتها أختها أم كلثوم، وكذلك حفصة ابنة أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، أما من خارج بيتها فجاء على رأسهن "عمرة بنت عبد الرحمن الأنصاري" و"أم الدرداء الصغرى" المتوفاة (81هـ)، والتي وُصفت بالعلم والعقل والفهم والزهد.
ونشير إلى مجال مهم تميز فيه عطاء المرأة في الحضارة الإسلامية، وهو مجال التدريس والتعليم، وتذكر كتب التراث والتراجم أن كبار فقهاء التابعين أخذوا بعضًا من علمهم عن أمهات المؤمنين، كما أن الإمام مالك بن أنس (المتوفى 179هـ) أخذ بعضًا من مروياته عن "عائشة بنت سعد بن أبي وقاص" رضي الله عنهما، وتذكر كتب التاريخ أنه كانت للإمام مالك ابنة تحفظ الموطأ، وعلى علم بمذهب الإمام مالك.
ومع تتابع العصور، لم تتخل المرأة عن مكانتها العلمية؛ ففي الأندلس كان الكثير من النساء بارعات في علوم الشريعة واللغة والأدب، بل إن الإمام الكبير "ابن حزم" أخذ الكثير من علمه خاصة في البدايات عن النساء، فيقول عن ذلك: "وهن علمنني القرآن، وروينني كثيرًا من الأشعار، ودربنني في الخط".
وقد أخذ الكثير من كبار علماء الإسلام علمهم عن عالمات فقيهات حافظات، ومن هؤلاء "الخطيب البغدادي" في القرن الخامس الهجري، لكن المدهش أن أحد كبار المؤرخين والمحدثين وهو "ابن عساكر" محدث الشام الأشهر، له كتاب اسمه "معجم النسوان" ترجم فيه لحوالي (80) امرأة من شيخاته، لكنه لم يصل إلينا.
وفي دراسة بعنوان "شيخات ابن عساكر جمع ودراسة" ذكر الباحث "محمد الطوالبه" أنه أكثر من الأخذ عن شيختين، هما: "أم البهاء فاطمة بنت محمد بن أبي سعد" وروى عنها ابن عساكر ما يقرب من (419) رواية في تاريخه، وهذه المرأة روى عنها الكثير من علماء ذلك العصر. أما الثانية فهي "أم المجتبى العلوية"، وروى عنها ما يقرب (245) رواية في تاريخه.
وهناك دراسات تحصي عدد المحدثات في مصر والشام خلال القرنين السابع والثامن الهجريين بأنه يزيد على (330) محدثة، ولا يوجد أحد من كبار المحدثين أو الحفاظ في هذين القرنين إلا وكان له أخذ ورواية عن واحدة من هؤلاء المحدثات.
وأخيرًا -أخي الكريم- ربما يكون لنا حديث آخر لاستكمال عطاء المرأة في الحضارة الإسلامية في المجالات المختلفة.