Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 84
  • رقم الاستشارة : 1722
22/04/2025

أنا واحدة بطبعي صريحة، ودايمًا بحب أقول الحقيقة زي ما هي، خصوصًا لو حد سألني عن رأيي في حاجة، حتى لو كانت حاجة بسيطة زي الأكل أو تصرف حصل قدامي. يعني مثلًا لو روحت زيارة عند ناس، وقدموا أكل ما عجبنيش، ممكن أقول بمنتهى البساطة: "الأكل فيه ملح زيادة"، أو "بصراحة مش داخل مزاجي"، أو لو حد قال أو عمل حاجة مش في محلها، ساعات بعلَّق وأقول رأيي بصراحة، بس من غير قصد إني أجرح أو أحرج حد.

اللي حواليا دايمًا بيقولولي: "ما يصحش كده"، "اجبري بخاطر الناس"، "مش لازم كل حاجة تتقال"، وده بيخليني أتردد، وأوقات بزعل من نفسي بعد ما أتكلم، وأقعد أفكر: يا ترى أنا غلطت؟ طب كنت سكت وخلاص؟

أنا عايزة أسأل حضراتكم: هل الصراحة دي تعتبر ذنب أو سوء خلق؟ ولا أنا كده بكون بقول الحق ومن غير تجمُّل؟ ولو سكتت على حاجة مش عاجباني علشان مشاعر اللي قدامي، هل ده فيه أجر؟

أنا نيتي والله دايمًا طيبة، ومش قصدي أحرج حد ولا أضايقه، بس مش بعرف أعمل حساب للكلام اللي ممكن يزعل، بحس إني بكون منافقة لو ما قلتش رأيي.

يا ريت تقولولي إزاي أوازن بين إني أكون صريحة، وفي نفس الوقت ما أكونش بأذي مشاعر غيري.

الإجابة 22/04/2025

سيدتي الفاضلة، مرحبًا بك، وجزاكِ الله خير الجزاء على هذه الرسالة الصادقة، التي انبعثت من نفس حريصة على الخير، مشغولة بالحق، متفكرة في أثر كلماتها.

 

أسأل الله أن يُلهمكِ رشدك، ويثبّتكِ على القول السديد، ويرزقكِ لسان صدقٍ في الآخرين، ويُلبسكِ ثوب العافية، وأن يجعل كلامك شاهدًا لكِ لا عليكِ، ويهديكِ لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا هو، وبعد...

 

مكانة الكلمة

 

قد ينهض إنسانٌ بكلمة، وقد ينكسر غيره بكلمة. قد تزرع مودَّة، وقد تُشعل فتنة، قد تُطفئ عينًا باكية، وقد تُغرق قلبًا في الوحشة.

 

لهذا كانت الكلمة عند الله عظيمة الشأن، فقال سبحانه: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، فليس هناك لفظ يخرج منكِ إلا ويُسجَّل، ويُحسب عليكِ أو لكِ.

 

وقال جل وعلا في وصف الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا ويَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * ومَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 24- 27].

 

ومن هنا نبدأ حديثنا عن الصراحة... وهل كل صراحة خير؟ وهل كتمان الرأي أحيانًا يُعدُّ نفاقًا؟ وهل يُؤجر المرء إن لم يقل ما في نفسه حرصًا على عدم جرح أخيه؟

 

الصراحة، ما حدودها ومتى تكون خيرًا؟

 

الصراحة في ذاتها لا تُذَم، بل الأصل في المسلم أن يكون صادقًا، غير مُداهن، ولا مذبذب، ولا متصنِّع.

 

وقد أثنى الله على الصادقين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]؛ لكن الصدق لا يعني الجفاء، ولا يُسوِّغ أن نُقدِّم الحق كالسيف على الرقاب. قال النبي ﷺ: «إن من أَحَبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا» [رواه الترمذي]. وحُسن الخلق لا يعني أن نقول الحقيقة فقط بأي صورة كانت، بل أن نزنها بميزان الرحمة والحكمة.

 

ولنضرب مثالًا عمليًّا من حياة النبي ﷺ: حين أهدت له امرأة طعامًا، ولم يكن يُحبُّه، لم يقل: «طعامكِ سيئ» أو: «لا يعجبني»، بل قال: «أجدني أَعافه» [متفق عليه] أي: لا أرغب فيه، وكأنَّه أرجع السبب لنفسه، لا لعيب في الطعام أو لصاحبته.

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: «ما عَابَ النبيُّ ﷺ طَعَامًا قَطُّ؛ إنِ اشْتَهَاهُ أكَلَهُ، وإلَّا تَرَكَهُ» [متفق عليه].

 

 فيا أختي، الصراحة حين تُعطى دون رحمة، تصبح خشونة، وقد تُقابل بالصدِّ ولو كانت صادقة.

 

هل الصمت أحيانًا أفضل من الصراحة؟ وهل في ذلك أجر؟

 

نعم، وألف نعم. الصمت أحيانًا يكون عبادة، وسِترًا، ومروءة، وفهمًا للنفوس. وقد قال رسول الله ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» [متفق عليه].

 

لاحظي هذا الشرط: «من كان يؤمن»، أي أن قول الخير أو السكوت من علامات الإيمان.

فإن رأيتِ أن قولكِ لن يُصلِح، ولن يُعين، وقد يُحرج أو يُكدر، فاصمتي، واحتسبي ذلك عند الله.

 

وقد قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، ولم يقل: «قولوا لهم كل شيء كما ترونه»، بل اختار كلمة ﴿حسنًا﴾، التي تدل على الكلام المصفَّى، المنتقى. فلو سكتِّ عن قولٍ ما مراعاةً لمشاعر الآخرين، فاعلمي أنكِ مأجورة بنيَّة الإحسان، واللطف، والستر، ودرء الأذى. وقال رسول الله ﷺ: «الكلمة الطيبة صدقة» [رواه البخاري]

 

فما بالكِ بكلمة مُنعَت كي لا تَجرح؟ أليست صدقة أيضًا؟

 

رخصة المجاملة التي لا تضر ولا تظلم

 

ومما يزيدكِ طمأنينة، ويُضيء لكِ الطريق في مسألة المجاملة: أن الشريعة الغرَّاء رخَّصت في بعض المواطن أن يقول الإنسان ما ليس مطابقًا تمامًا للواقع، إذا كان القصد به جبر الخاطر، أو الإصلاح، أو دفع أذى، ما دام لا يترتب عليه ظلم أو تضييع حق.

 

قال النبي ﷺ: «لا يحلّ الكذب إلا في ثلاث: يُحدِّث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس» [رواه مسلم]، فهذه ثلاثة مواطن رخَّص فيها الصادق المصدوق ﷺ أن يُقال فيها غير الحقيقة، منها في العلاقة بين الزوجين، فإذا قال الزوج لزوجته -مثلًا-: «أنتِ أجمل نساء الأرض»، أو: «طبخكِ لا يُضاهى»، أو: «كلامكِ هو الألطف»، وهو يُجامِلها بقصد استرضائها وإشعارها بالحب، فلا يُعدُّ هذا نفاقًا ولا كذبًا مذمومًا؛ بل من حُسن العِشرة.

 

وعلى هذا القياس في العلاقات الاجتماعية، كأن تُثني المرأة على زيارة أو جهد غيرها بكلام طيِّب من باب جبر الخواطر، لا كذبًا عن واقع، ولا تزويرًا للحق.

 

وكذلك في الإصلاح بين الناس، قال ﷺ: «ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا» [رواه البخاري]، فإذا كنتِ في موقفٍ ترين فيه أن كلمة لطيفة قد تُطفئ نار خصام، أو تُقلِّل حدّة موقف، فأنتِ مأجورة، لا مُذنبة.

 

لكن هذا مقيد بألا يكون في هذه المجاملة أكل حقوق أو ظلم، وهنا القيد المهم، حتى لا يترتب على هذه المجاملة تضليل أو تضييع لحق أحد، أو شهادة زور.

 

فالميزان هو: هل في كلامي ظلم أو تضييع لحق أحد؟ هل أُوذي أحدًا بمدح من لا يستحق؟ إن كان الجواب: لا، فمجاملتكِ تقع في دائرة المباح؛ بل وتكون محمودة عند الله.

 

كيف نوازن بين الصدق والرفق؟

 

1- استحضري نيتكِ دائمًا قبل الكلام: قولي لنفسك: هل أريد بهذه الكلمة وجه الله؟ إصلاحًا؟ نصحًا؟ أم مجرد تعبير عن رأيي؟

 

2- اسألي نفسكِ: هل ستُغيِّر هذه الكلمة شيئًا؟ لو لن تغيِّر، واكتفيتِ بالشكر والمجاملة المهذَّبة، فأنتِ أقرب إلى الصواب.

 

3- استخدمي أدوات التعبير المحايدة: بدلًا من «الأكل مش حلو»، قولي: «أحسُّ أن الطعم مختلف»، أو «يمكن ذوقي مختلف»، أو اكتفي بالشكر فقط.

 

4- راجعي أثر كلماتكِ بعد كل موقف: واستغفري إن شعرتِ أنكِ أوجعتِ أحدًا دون قصد، واطلبي من الله أن يُصلح قلبكِ ولسانك.

 

5- اقرئي سيرة النبي ﷺ وأحاديثه في التعامل مع الناس: فستجدين فيها مدرسةً كاملةً في التوازن بين الصراحة والحكمة والرفق.

 

النيَّة الطيبة وحدها لا تكفي:

 

نعم، النية الطيبة بابٌ عظيم للأجر، والله لا يُضيع نوايا الصادقين؛ لكن النية لا تُلغي أثر الكلمة، فكم من كلمة خرجت من طيِّبٍ صادقٍ، ولكن أصابت قلبًا هشًّا، فكانت كالسهم. وقد قال النبي ﷺ: «وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟» [رواه الترمذي].

 

وختامًا -سيدتي الفاضلة- أنتِ على خير، وما أجمل أن يكون عند المرء ضمير يؤنِّبه لا يخذله، وعقلٌ يُمحِّص، وقلبٌ لا يُحب أن يُؤذي.

 

أنتِ لستِ مخطئة، ولكنكِ تسعين إلى أن تُصبحي أدقَّ وأرفق، وهذا هو طريق السالكين إلى الله. قال تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج: 24].

 

فاجعلي كلماتكِ دائمًا «طيّبة»، فإن لم تكن كذلك، فلا بأس أن تلوذي بالصمت، حتى يفتح الله لكِ القول الحسن.

 

وفقك الله لما يحب ويرضى، وأسأله -سبحانه- أن يرزقكِ كلامًا يُرضيه، وقلوبًا تفهمكِ ولا تؤوِّل كلامكِ بسوء. اللهم آمين.

الرابط المختصر :