الإستشارة - المستشار : د. موسى المزيدي
- القسم : إدارية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
99 - رقم الاستشارة : 1773
28/04/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الإتقان في العمل وحسن التنفيذ ما علاقته بالإدارة الجيدة ومتابعتها للعمل في كل مراحله وما تأثيره في تحفيز الإنسان؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلا ومرحبا بك أخي الفاضل على موقع استشارات المجتمع، وبعد:
فالإتقان في العمل يزيد من جماله ويظهر اللمسات الإنسانية للعامل، والإتقان له مقام كبير في صنع الحضارات، وقد حث عليه ديننا الحنيف فقد ورد في القرآن الكريم ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (النمل: 88)، وقال النبي -ﷺ-: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».
ومن الأمور المهمة إتقان مهارات إدارة الفريق، من التواصل الواضح والقيادة الحكيمة والعمل المبني على وضوح الرؤية والأهداف، والتغلب على تحديات العمل وإلهام فريق العمل وتعزيز ثقافة الابتكار والمرونة.
وإليك أيها القارئ بعض القصص التي حدثت في الواقع بتواريخها المعلنة وأمكنة وقوعها لأشخاص محفزين وأصحاب همم عالية، وتوضح أن لمسة إنسانية مؤثرة في النفس تشحذ همتك.
خطاط المسجد النبوي عبد الله زهدي أفندي
في ذلك اليوم كنا في مكة نستمع إلى محاضرة يلقيها الأستاذ أحمد ضياء الدين المدني، الخبير في المخطوطات الموجودة في المدينة المنورة. وكانت المحاضرة عن خطاط المدينة المنورة الأسطورة عبد الله زهدي أفندي.
أنا أسمع كثيرًا عن ضرورة إتقان الأداء في العمل، وضرورة تهيئة البيئة المحيطة في ذلك. ومن المعلوم أن درجة الإتقان أمر نسبي، ودرجة تهيئة البيئة كذلك أمر نسبي. فما هو متقن لديك ربما يكون غير متقن لدى غيرك، وما يعتبر متقنا في البيئة لديك ربما يكون غير متقن لدى غيرك.
من الأمور التي وصلت إلى درجة الإتقان في الأداء والبيئة معا، هو العمل الذي أتقنه الخطاط البارع عبد الله زهدي أفندي ابن عبد القادر أفندي النابلسي، ويتصل نسبه بالصحابي الجليل تميم بن أوس الداري.
ويرجع أصل عبد الله زهدي أفندي إلى مدينة نابلس فلسطين، وقد هاجر منها أجداده إلى الشام، ومن المرجح أن يكون قد ولد فيها، وبعد ذلك هاجر مع والده سنة 1251هـ الموافق 1835م إلى مدينة كُوتاهية التركية، وهي من المدن القديمة التي استوطنها العثمانيون في بداية تأسيس دولتهم. وفي العام نفسه هاجر إلى مدينة إستانبول عاصمة دولة الخلافة العثمانية.
وكانت بداية شهرته عندما أراد السلطان العثماني عبد المجيد المتوفى في العام 1255هـ الموافق 1839م إعادة تعمير المسجد النبوي الشريف وتوسعته بعد انهيار إحدى القباب فيه، فطلب السلطان إلى الخطاطين الموجودين في تركيا تقديم نماذج من أفضل ما لديهم من خطوط، ليتم اختيار الأفضل منهم وإسناد شرف الكتابة على جدران المسجد النبوي إليه.
وشارك في تلك المسابقة كبار الخطاطين الأتراك، وكان منهم ذلك الشاب زهدي أفندي، الذي لم يكن مشهورًا قبل ذلك، وقد أشرف على عملية اختيار الخطوط المناسبة السلطان عبد المجيد نفسه، إذ كان خطاطًا ماهرًا، درس فن الخط على كبار خطاطي عصره، من أمثال طاهر أفندي.
وكان السلطان عبد المجيد يجيد الكتابة بخط الثلث، ويعمل على تشجيع الخطاطين ورعايتهم، وكذلك كان والده السلطان محمود بن السلطان عبد الحميد المتوفى عام 1277هـ الموافق 1861م خطاطًا ماهرًا.
وعند قيام السلطان بإلقاء نظرة فاحصة على اللوحات الخطية المعروضة، استوقفه ما كتبه الخطاط عبد الله زهدي أفندي، وكان حاضرًا، فقال له: أأنت الذي كتبت هذا يا بني؟ قال: أجل. فدعا له السلطان بالتوفيق والنجاح، وأمر بتخصيص راتب له مدى حياته قدره 7,500 قرش، ثم أمره بالتوجه إلى المدينة المنورة لكتابة خطوط المسجد النبوي الشريف.
وبدأ العمل في إعادة ترميم المسجد النبوي الشريف وتوسعته، وكانت الخطة الحكيمة أن يكون الترميم والبناء بالتدرج، حيث يكون العمل في واحدة من جهات الحرم حتى لا يتعطل الناس عن أداء الصلاة في هذا المسجد المبارك، وكلما انتهى البناء في جهة، انتقل العمل إلى جهة أخرى، وهكذا حتى تم الترميم واكتملت التوسعة. وكانت تلك التوسعة هي الأكبر من نوعها منذ إنشاء المسجد النبوي الشريف، حيث بلغت مساحتها [أي توسعة السلطان عبدالمجيد] 9,132 مترًا مربعًا.
وبعد إتمام عملية البناء، انتقل العمل إلى الخطاطين والمزينين -وفي مقدمتهم عبد الله زهدي أفندي- لكتابة الخطوط على جدران المسجد، بناءً على تكليف السلطان عبد المجيد. وظل عبد الله زهدي أفندي يمارس عمله في المدينة المنورة عدة سنوات، حتى أنجز العمل على أحسن وجه وأكمله، فكتب مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة والأشعار التي قيلت في مدح الرسول ﷺ.
وقد ساعده في ذلك مجموعة من المهندسين والفنانين، مثل الخطاط جُومر زاده محسن أفندي، والمذهّب الحاج حسين أفندي، وتلميذه الحاج أحمد أفندي. بل يقال: إن السلطان عبد المجيد أرسل فرقة أناشيد إلى المدينة المنورة لإنشاد التواشيح الدينية والمدائح النبوية، وذلك من أجل الترويح عن عبد الله زهدي ومن معه، ولشحذ هممهم وتشجيعهم على إتقان العمل وإتمامه على أكمل وجه وأفضل صورة. المصدر: (www.al3ez.net).
وقد أخبرنا المحاضر الأستاذ أحمد ضياء الدين المدني أن عدد المنشدين الذين أرسلهم السلطان عبد المجيد إلى المدينة المنورة كان 60 منشدًا.
لقد تركت هذه المحاضرة في نفسي لمسات إنسانية مؤثرة، عرفت بواسطتها معنًى آخر للدقة والإتقان.
معرفة أعمال المحترفين عبر التاريخ، تلهمك وتشحذ همتك.
سفر مؤثر لشركة استشارية في نيويورك
اتصل بي مكتب الصانع للاستشارات، يطلب إليّ إعداد دراسة حول الجدوى الاقتصادية لإنشاء جامعة للبنات في "أبوظبي". تم إعداد الدراسة في غضون أشهر عدة. وأظهرت الدراسة وجود جدوى اقتصادية كبيرة في إنشاء تلك الجامعة، مع وجود إحصائيات واستبانات تؤكد ذلك.
طلب إليّ مكتب الصانع بعد ذلك السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لعرض نتائج الدراسة على شركة "كوبرز & لايبراند" Coopers & Lybrand للاستشارات؛ من أجل اعتماد الإجراءات المتبعة، والتأكد من سلامتها.
وصلت إلى مدينة نيويورك الخميس مساء، وكان اللقاء مع المؤسسة يوم الجمعة في الساعة 10 صباحا مدة ساعتين. خرجت من الفندق في الساعة 9 صباح يوم الجمعة أبحث عن موقع الشركة، فسألت رجلا خارج الفندق: إذا سمحت، أين أجد مكتب شركة "كوبرز & لايبراند" Coopers & Lybrand؟ فاستغرب من سؤالي وقال: انظر إلى ناطحة السحاب هذه الملاصقة للفندق، هل ترى اسم المؤسسة مكتوبًا على جدارها، من أعلى طابق فيها إلى أسفل طابق فيها!! قلت مدهوشا: أجل. وشكرًا!!
جرى عرض الدراسة مدة ساعتين على 3 أشخاص قدموا من 3 جهات مختلفة في أمريكا وكندا، ثم عادوا إلى ديارهم بعد اللقاء مباشرة! وكان حضورهم فقط من أجل التأكد من سلامة إجراءات الدراسة واعتمادها! تم اعتماد الإجراءات والحمد لله، وحصلَتْ الدراسة على دمغة من الشركة تكلفتها 5000 دولار.
حقًّا أصبت بالدهشة من دقة أفراد دول العالم المتقدم! وحرصهم على أوقاتهم وجديتهم! لقد كانت الرحلة مثيرة ومؤثرة، على الرغم من أنها لم تستغرق سوى 4 أيام؛ إذ غادرت الكويت صباح الخميس، ووصلت إلى مدينة نيويورك مساء الخميس، ثم التقيت أعضاء المؤسسة صباح الجمعة، وانتظرت إلى مساء السبت لمغادرة نيويورك على أول طائرة كويتية متاحة للسفر، ووصلت ظهر يوم الأحد إلى الكويت. رحلة مكوكية سريعة ونتائجها باهرة. وقد تركت لمسات إنسانية كبيرة ومؤثرة في نفسي.
وتعد شركة "برايس وتر هاووس كوبرز" أو PwC من أكبر شركات الخدمات المهنية Professional Services في العالم. تأسست في العام 1998م إثر اندماج شركة "برايس وتر هاووس" مع شركة "كوبرز & لايبراند" Coopers & Lybrand في لندن. كان إجمالي إيرادات PwC للسنة المالية 2008م نحو 28 مليار دولار أمريكي، وتوظف نحو 164 ألف موظف في 150 دولة. وتعتبر واحدة من أربع شركات كبرى في مجال الخدمات المهنية.
إن معرفة ما لدى الدول المتقدمة من استشارات ودراسات ناجحة، يترك لمسات إنسانية كبيرة ومؤثرة فينا، وغالبا ما تكون محفزة للنفس ومؤثرة فيها.
الخلاصة:
الإتقان قيمة عالية، تُظهر لمسات الإنسان في دقته في العمل، وإحساسه بالمسؤولية ليخرج أفضل ما لديه، والإدارة السليمة هي التي تكتشف أصحاب الإتقان وتتابعهم في العمل وتوفر لهم كل الاحتياجات وتذلل كل العقبات ليبدعوا في أعمالهم.