عظماء صغار في جهاد الشبهات.. الاستعداد قبل الاقتحام

<p>أنا فتاةٌ في التاسعة عشرة من عمري، قرأت كثيرًا في كتب المناظرات والحوار الإسلامي المسيحي، وأنا أرى أنَّ عليَّ واجب دعوة الناس إلى دين الله، وخاصَّةً المتحدِّثين بالعربيَّة، وأتمنَّى أن أبدأ بدراسة الدين المسيحي بتعمُّق.. فهل تنصحونني بذلك؟ وكيف أبدأ؟ وهل لي أن أقرأ الكتاب المقدَّس؟ أم أنَّني لست عالمةً لأقرأه؟ أرشدوني.. جزاكم الله خيرًا.</p>

الأخت الفاضلة..

بداية، نشكرك على حبِّك لدين الله تعالى، وحرصك عليه، وأن يكون همُّك كفتاةٍ مسلمةٍ هو الدفاع عن دينك، وهو نوعٌ من الجهاد الذي تثابين عليه، أنت وقريناتك إن شاء الله.

فكم هو جميلٌ أن تنشأ فتيات المسلمين على حبِّ الله تعالى، والسعي لمرضاته، والعمل على خدمة دعوته ودينه، في الوقت الذي يلهث فيه كثيرٌ من الشباب والفتيات وراء المتعة الزائفة، والتجارة البائرة.

وأذكِّرك –أختي الكريمة- بقول الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33]، وأيّ حسنةٍ أفضل من الدعوة إلى الله؟!

ولعلَّك بهذا الصنيع تعطين –أنت وكلّ أختٍ تهتمُّ بدعوة الله- صورة صحيحة عن المسلمة التي يُزعم أنَّها حبيسة الجهل والبيت، فالمرأة قرينة الرجل في دعوة الله تعالى، وهذا ما نفهمه من قوله سبحانه وتعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71]، وحجب المرأة من العمل الدعوي هو حجبٌ للمجتمع من رحمةٍ من رحمات الله، على ما نفهمه من الآية.

ولقد ذكرتِ -أختي الفاضلة- أنَّك تريدين أن تتخصَّصي في ردِّ شبهات النصارى حول الإسلام، وأنَّك قرأت بعض المناظرات والمجادلات، وهو من حيث المبدأ لا مانع منه، فهو عملٌ جليل، بل نحسبه من أعلى مراتب الدعوة إلى الله تعالى.

غير أنَّه لا بدَّ لكلِّ عملٍ أن يتهيَّأ صاحبه له، وأن يكون عالمًا بطبيعته، مدركًا لماهيَّته، سابرًا غوره، فلا يفرح الإنسان أن يعمل في شيءٍ ذي أهمِّيَّةٍ بالغة، بل الفرح الحقيقي هو أن يعمل العمل على الوجه الأكمل الذي يرتضيه الله تعالى، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (رواه البيهقي وحسنه الألباني).

وإن كان إتقان العمل مطلوباً في أمور الدنيا، لأنَّ وراءه قريباً محاسِباً من مديرٍ أو مسؤول عمل، فإنَّ مسؤوليَّة الدعوة أشقُّ على الناس، لأنَّهم يتعاملون فيها مع الله تعالى.

وهذا يعني أنَّه لا بدَّ لكلِّ داعيةٍ أن يسلك الأخذ بالأسباب في الدعوة إلى الله تعالى، ولعلَّ القرآن الكريم يضرب لنا مثلاً رائعًا في الأخذ بالأسباب، حين قال لمريم رضي الله عنها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) [مريم: 25]، فمع كون الله تعالى قادرٌ أن ينزل الرطب بلا تعبٍ ولا مشقَّة، إلا أنَّه أمر مريم أن تهزَّ الجذع اليابس، وهذا كثيرٌ في القرآن، مثل أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر، فينشقَّ طريقٌ يمشي فيه الناس، وكان سبحانه وتعالى قادرًا على إيجاد الطريق، إلا أنَّ الله تعالى ارتضى لهذا الكون أن يسير على قانون السببيَّة.

وهذا يعني -في ظنِّي– بالنسبة لمسألتك:

1- أن يكون هناك إلمامٌ بكلِّ ما قيل من شبهاتٍ للنصارى حول الإسلام، والقراءة في الردود عليها، بنوعٍ من التعقُّل المدروس، مع التشرُّب بمنهج القرآن والسُّنَّة النبويَّة المطهَّرة، وإعمال العقل فيما يخصُّ الشبهات من أمورٍ يختلط فيها الشرع والحياة.

2- ويضاف إلى هذا معرفةٌ واعيةٌ بما عندهم من عقائد تخالف الشرع والعقل، لما خالط كتابهم من تحريفٍ وتصحيفٍ وتزييفٍ وتغيير، وإثبات هذا كلّه من خلال القرآن والسُّنَّة والتاريخ وواقع الناس.

3- وقبل هذا كلِّه لا بدَّ من العلم والمعرفة بدين الله تعالى، معرفةً يتحصَّن بها الإنسان من كلِّ شبهة، ويردُّ بها كلَّ شاردةٍ وواردة.

وهذا جهدٌ لا يقوم به فردٌ بعينه، بل لا بدَّ فيه من عملٍ مؤسَّسي، ينفق عليه من أموال المسلمين، وترعاه الدول الإسلاميَّة، والأمَّة كلّها، فكما ينفق على التبشير والتنصير مليارات الدولارات، يجب ألا يبخل المسلمون بمال الله الذي آتهم على دين الله، وصدّ العدوان الفكري، لأنَّ هذا من أبواب الجهاد الذي تُطَالب به الأمَّة على وجه العموم.

وطبيعة السنِّ التي تعيشينها لا تؤهِّلك لمثل هذا العمل، بشكله الذي شرحناه، وإنَّما يكون الإعداد له من الآن، فلا تتسرَّعي في إجابة النصارى، وأن تقحمي نفسك في مثل هذا العمل.

والطريق الإيجابي لك إن أحببت أن تسلكي هذا الطريق أن تتخصِّصي في دراسته، وأن يكون مشروع حياتك الالتحاق بالكلِّيَّات الشرعيَّة التي تعنى بهذا، مع القراءة والاطلاع والاستفادة من كبار الدعاة.

أمَّا الآن، فأرى أنَّ دعوتك لا بدَّ ألا تأخذ طريق المواجهة، بل طريق الإصلاح الداخلي، فكم من فتياتٍ صواحب لك من المسلمات غير ملتزماتٍ بشرع الله، خارجاتٌ عن كثيرٍ من تعاليمه وأحكامه، ربَّما كانت أختك التي تعيش معك، أو زميلتك التي تقطن بجوارك، أو صاحبتك في المدرسة، أو من كانت لها صلةٌ بك أكثر أو أقلَّ من هذا في مثل هذا الحال.

فلماذا ننظر إلى دراسة شبهات النصارى، والدين عندنا مشوَّش، وهو يكاد يكون في كثيرٍ من سلوك الناس حبرٌ على ورق، فلم يعد الإسلام هو المحرِّك للناس في حياتهم، فضلاً عن الحرب الثقافيَّة والفكريَّة التي ألهت الناس عن الدين.

وليس من الحكمة أن يوجِّه القائد جنوده للأعداء وهناك خللٌ داخلي، فحين يؤمن المسلمون بدينهم إيمانًا صادقًا، ويحيون له، ويعيشون به، ويسكن جنباتهم، ويخامر عقولهم، فسيكونون ساعتها أهلاً لأن يبدؤوا في الاستعداد للدفاع عنه فيما يُحَاك له من الخارج.

وفي هذا الوقت يجب على أصحاب الدعوة والمتخصِّصين في دراسة مقارنة الأديان أن يوجدوا منهجًا للتعامل مع الشبهات، وأن يردُّوا عنها بطريقةٍ علميَّةٍ بعيدًا عن الأهواء، والعواطف، والخطب، والكلمات التي تثير ولا تعالج.

وأن يُنشئوا فريق عمل -ربَّما كان ذلك في كلِّ دولة- ومنه يمكن اختيار بعض الأعضاء على مستوى الدول لتوضيح صورة الإسلام، والردِّ على الشبهات المثارة حوله.

أمَّا عنك أختي.. فإن كنت ما زلت مصرَّة على أن تعملي في ردّ الشبهات، فيكفيك الآن –حتى تتهيَّئي لهذا العمل- أن ترسلي ردود العلماء الأفاضل لمن كانت عنده شبهةً من أصحابك عبر الإنترنت.

غير أنَّه من الواجب عليك أن تكون الدعوة لأخواتك المسلمات، ولا تنسي أن تتزوَّدي بسيرة الصحابيَّات الكريمات، وأمهات المؤمنين، وصالحات هذه الأمَّة ممَّن كان لهنَّ نصيبٌ في إثراء الحياة بجوار الرجال، مع الأخذ من حياة صالحي هذه الأمَّة سلفًا وخلفًا.

وأظنُّ أنَّك الآن قد عرفت الردَّ حول القراءة في الإنجيل في هذا الوقت الذي تُعدِّين فيه نفسك لتكوني مجاهدةً بقلمك وكلمتك بعد الاستعداد المتقن لهذه العمل العظيم، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [النور: 55].

وأختم كلامي لك بهذه الآية التي يقول الله تعالى فيها: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الفتح: 29].

فدعي الغرس يستوي على سوقه، ويأخذ وقته، حتى يغيظ أعداء الإسلام والإنسانيَّة الذين يسعون في الأرض فسادًا، فساعتها نسعد بالزرع إذ أتى بأوانه، وما يفعل زرعٌ حُصِد قبل وقته إلا ضياع جهدٍ نحن أحوج ما نكون إليه إذا وضعناه موضعه، وتركنا له وقته المطلوب!

وإنَّ الناس لا ينظرون إلى الوقت الذي أنجز فيه العمل، وإنَّما ينظرون كيف خرج العمل، هذا إذا كان الناس هم الناظرون، فما بالنا إذا كان ربُّ الناس هو الناظر والمجازي؟

اللهَ نسأل أن يتقبَّل منك، وأن ينبتك نباتًا حسنًا، وأن يجعلك من الدعاة إلى الإسلام، الذين يخلصون في عملهم، ويتقبَّل منهم.

وتابعينا بأخبارك.