<p>إنني يا سيدي دائماً أمرُّ بظروف صعبة جداً؛ اقتصادية ومادية ومعنوية ونفسية، ويشاء القدر دائماً أن يكون زملائي من المتيسرين، فكنت أشعر بالضآلة لذلك، ولكني كنت دائماً من المتفوقين، ولذلك كانت لي مكانة جيدة وسطهم، وكنت دائماً محبوباً من الناس وأساتذتي بفضل الله تعالى، وليس هذا فقط، ولكن كان أعمامي أعمام سوء؛ سرقونا ونهشوا لحومنا، وكانوا يكيدون لنا الدسائس ومنعونا من خير كثير، وكنت دائماً عندما أدخل مجالاً أدخل أصعبه، بينما زملائي يدخلون أيسره، وهذا منذ صغري؛ مما تسبب في اضطرابات نفسية لي، وكنت قبل أي امتحان تأتي المصائب حتى تمنعني عن المذاكرة بموت فلان أو مشكلات أعمامنا وخلافه، ومع ذلك كنت أنجح وأتفوق. وعندما كنت أحصل على مال سواء من أبي أو من عملي كان كل مليم يصرف إما على مرض أو دَيْن أو أي شيء آخر، ولا أنتفع بأي مليم على نفسي، ودائماً ما نحلم به يأتي متأخراً جداً لدرجة أنك لا تبتهج بمجيئه ويزداد الاكتئاب. وأصبحت أكره المستقبل؛ لأنه أصبح لي ظلاماً، ومع ذلك لا أيأس من رحمة الله، ودائماً أفكر أن أشكو حالي لأيسّر على نفسي، ولكن أشكو من؟ أشكو ربي كما تعلمت من صحابية نهرت زوجها لشكواه حال فقرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما دائماً أسمع مشكلات أصحابي وأُسرِّي عنهم. وسؤالي: هل ما أنا فيه ابتلاء أم عقاب من الله؟ (لأني منذ صغري على ذلك ودائماً في إحباط)، وكيف أعرف ذلك؟ وكيف أصبر على ما أنا فيه؟</p>
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
الأخ الحبيب..
ربما تتعجب كم أنا مسرور لإرسالك لنا، وأن نتعرف على شخصية مثلك، فقد حباك الله تعالى كثيراً من الصفات الطيبة التي لاحظناها من خلال رسالتك.
أما عن سؤالك، فإن نظرة الناس تختلف إلى الأشياء، فالعين قد تنظر إلى مواطن القبح، هي هي يمكن لها أن تنظر إلى مواطن الجمال، فالشيء الواحد في الغالب ليس له وجه واحد، بل له وجهان.
ويعجبني قول الشاعر الحكيم: كن جميلاً ترى الوجود جميلاً.
إن ضيق اليد قد يكون ابتلاء من الله، وقد يكون إهمالاً من الإنسان، وتركاً للأخذ بالأسباب.
وقد يجعل المرء نفسه يعيش في ضيق وضنك، ويمكن أن يجعل حياته حلوة، فيها من السعادة، فيصنع من البؤس سعادة وابتهاجاً.
وكما ترى نفسك تكن.
لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتفاءل ولا نتشاءم، بل جعل التشاؤم من الأمور المرفوضة.
ومن العجيب أن الابتلاء قد يحمل معنى النعمة لا النقمة! فالبلاء له معنيان:
الأول: الإنعام، وهو بذل النعمة للغير، كما في قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ) [الصافات: 106].
الثاني: الاختبار والامتحان بالخير أو الشر، كما في قوله تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35].
1- وللبلاء حكم عديدة، أهمها:
- تمحيص الله لعباده، قال تعالى: (حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران: 179].
- وقد يكون الابتلاء قصاصاً في الدنيا مما تقترفه أيدي العباد، وجزاءً لهم بالسيئة على السيئة، قال تعالى: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ: 17]، وقال سبحانه: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً) [النساء: 160].
وقد ينزل البلاء على العباد رفعاً للدرجات، وتكفيراً للخطايا والسيئات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه»، وقال أيضاً: «ما يصيب المسلم من هَمٍّ ولا غمّ ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه».
قال الإمام الغزالي رحمه الله: قال عيسى عليه السلام: «لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض عليه؛ لما يرجوه من ذلك من كفارة خطاياه».
فكون ما يحدث لك عقاباً، ربما يكون هذا إن كنت تقع في المعاصي والآثام، ليكفر الله تعالى عنك، حتى تقابله وليس عليك خطيئة.
ونحسب أنه من رفع الدرجات لك عند الله تعالى، فارض بما قدر الله تعالى.
غير أن هذا لا يمنع أن تسعى لإسعاد نفسك، فالإنسان حين يحصر نفسه في دائرة، فيدور حولها، وكان من الممكن له أن يكون سعيه وحركته خارج الدائرة، فلا يلوم غيره، أو يلقي اللائمة على أحد، فما منعه أحد أن يخرج.
وحين يستشير الإنسان غيره في مشكلة له، لا يعني هذا أنه ساخط على قدر الله، بل هو يستعين بالله، ويأخذ برأي أولي العلم والحكمة، توكلاً على الله، وأخذاً بالأسباب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في معظم أموره، وهو الغني عن مشورتهم، ولكن ليعلمنا أهمية الشورى في حياتنا.
فاستنهض نفسك مما أنت فيه، وانظر مواطن النور، واسع إليها، وأحسن الظن بالله تعالى، واخرج عن حدود الدائرة التي تحصر فيها نفسك، ستجد الدنيا أوسع بكثير من هذه الدائرة التي سجنت فيها نفسك.
فإن صنعت كل هذا، ولم تتغير الحال، فاعلم أن الله يرقِّي درجاتك عنده، وأنه يفضِّل لك الآخرة عن الدنيا.
ومن مواطن الجمال في حياتك أنك إنسان متفوق في حياتك، وهذه من النقاط المضيئة التي يجب أن تنتبه لها، ولو نظرت في حياتك، لتلمست نعماً كثيرة لله تعالى عليك.
كما أننا ننصحك بقراءة كتاب «جدد حياتك» للشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، ففيه نظرة جيدة لترتيب العقل والفكر، ونظرة متفائلة للحياة، وسعياً للتغير الفعال للمسلم في حياته.
والله نسأل لك الخير في الدنيا والآخرة.
ونرجو أن تطمئننا على حالك.