<p>هل من الممكن أن تكون أفكارنا سببًا في الجهل بأنفسنا؟ وهل الجهل بالنفس أزمة معرفية أم حالة نفسية سلوكية؟</p>
أن تكون جاهلا بنفسك، فأنت تعاني من أزمة عميقة متشابكة متداخلة، أزمة وجودية وأزمة معنى، وأزمة وعي ورؤية، وتفاعل تلك الأزمات له ضريبته في معاناة الإنسان النفسية والعقلية والصحية والسلوكية.
تلخص مقولة العارف "يحيى بن معاذ الرازي": "من عرف نفسه فقد عرف ربه" جانبًا مهمًّا من تلك الأزمة الوجودية للإنسان المعاصر، فجهل الإنسان بالخالق سبحانه وتعالى، هو من تجليات جهله بنفسه وذاته، ولذلك أعطى العارفون تلك المقولة حظها من الفهم والتفسير، فقيل: "من عرف نفسه بالضعف والافتقار إلى الله والعبودية له عرف ربه بالقوة والربوبية والكمال المطلق والصفات العلى"، وقيل: "من عرف نفسه بذلها وعجزها وفقرها عرف الله بعزه وقدرته وغناه"، وقيل: "صفات نفسك على الضد من صفات ربك، فمن عرف نفسه بالفناء عرف ربه بالبقاء، ومن عرف نفسه بالجفاء والخطأ عرف ربه بالوفاء والعطاء، ومن عرف نفسه كما هي عرف ربه كما هو".
مأزق وجودي
الجهل بالذات مأزق وجودي، وقد تناوله الفلاسفة القدماء خاصة أفلاطون الذي اعتبر هذا الجهل أسوأ من السجن وأبشع من العبودية وأقرب إلى الموت، أما البرفيسور الأمريكي "دانيال دينيكولا" المتخصص في الفسلفة ففي كتابه "فـــــهم الجـــــهل" الصادر يناير 2024م، أكد أن الجهل أبعد ما يكون عن نقص المعرفة، وفي كثير من الأحيان الناس لا يفطنون إلى جهلهم ويركنون إلى ما اعتادوا من الحياة والمعرفة، وكأنهم بذلك أزالوا الجهل عن أنفسهم.
والحقيقة أنه في بعض الأحيان قد تكون معرفة الإنسان بنفسه نوعًا من الجحيم خاصة إذا اغترب عن نفسه كثيرًا، وغرق في الانشغالات أو الملذات والغفلات، وعندما يبدأ رحلته للتعرف على نفسه يفاجأ بأنه لا يعرفها، ولعل هذا ما اتضح لعدد غير قليل من البشر أثناء فترة الإغلاق إبان أزمة كورونا، واضطرار الناس لملازمة بيوتهم والجلوس طويلاً مع أنفسهم، التي لا يعرفونها، فبعض الناس استرجع مقولة الفيلسوف الايطالي "دانتي" في أن الوعي هو الجحيم، حيث كان إدراكهم لأنفسهم نوعًا من الجحيم، سواء لبشاعة تلك النفس، أو حتى لطرحها الأسئلة الوجودية حول الغاية والمصير بعد الموت ومسألة كيفية التعامل مع الموت الذي يتسلل بلا إنذار ولا مانع إليهم أثناء الوباء.
الدين ومعرفة النفس: كان أرسطو يقول "معرفة نفسك هي بداية كل حكمة" فالجهل بالنفس، يضع الإنسان على حافة الهاوية، والصمت لن يعفي من إلحاح الأسئلة، لذا اهتم الدين بتلك القضية، وسلّط أنواره في أعماق الإنسان بحثًا عن النفس، لتحديد معالمها وحدودها وطاقاتها، فمعرفة النفس ليست معطى إنسانيًّا، ولكنها جهد وبحث واستكشاف ورحلة يبحرها الإنسان في داخله منذ ولادته حتى نهايته، قد تمنحه البيئات التي يحيا فيها مفاتيح للمعرفة، وقد تغلق أمامه أبواب الفهم، لكنها تبقى سؤالاً كبيرًا مقلقًا، لذلك يُقال "معرفة الآخرين ذكاء، أما معرفة النفس فهي الحكمة".
وقد لمس الدكتور "عبد الوهاب المسيري" في كتابه "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان" أزمة العلوم الغربية في مسألة معرفة النفس، عندما تساءل: هل يمكن تأسيس علوم إنسانية دون معرفة الانسان؟ مشيرًا إلى أن صورة الإنسان في تلك العلوم ترسم إنسانًا ذا طبيعة واحدة يتحرك وفق إطار آلي من الدوافع والمثيرات.
معرفة النفس عافية كما يؤكد علم النفس، وقد يتعرض الجاهل بنفسه لأمراض الاكتئاب والقلق والتوتر، وجزء من معرفة النفس يتعلق بفكرة النظر للمستقبل وموقع الإنسان فيه، فالإنسان إذا عرف نفسه سعى لوضعها في مكان يليق بها في أيامه المقبلة، وإذا كان جاهلا بنفسه، لم يخطط لمستقبله، وربما غالى في تقييمها دون أن تستحق، أو بخسها قيمتها وحقها وبذلك يكون قد ظلمها في الحالتين.
تشير دراسات علم النفس إلى أن تلك المعرفة تتيح للإنسان تنظيم ذاته، فالإنسان في هذه الحالة يمتلك معلومات واضحة عن أهدافه، ولديه معايير يقيس من خلالها الأمور، ولديه اسراتيجية يتحرك وفق خطوطها العريضة، والتفاعل بينها يُنتج حركة أكثر وعيًا بالنفس وإدراكًا للواقع، وتتيح قدرًا من التنبؤ حول دور الشخص وموقعه المستقبلي، لذلك قال حكيم الصين ورجلها العسكري "صن تزو" المتوفى قبل خمسمائة عام قبل الميلاد: "اعرف نفسك وسوف تكسب كل المعارك".
والدين أهم وسائل معرفة النفس: فأغلب الأديان وفي مقدمتها الإسلام تركز على اكتشاف الذات، فالإسلام يرجع الذات إلى الفطرة التي خلقها الله تعالى، نقية غير ملوثة، وأن رحلة الإنسان في الحياة ما هي إلا لإعادة هذا النقاء للفطرة وتنقيتها من الشوائب، وهو ما يستوجب معرفة بالنفس وما اعتراها من تغيرات.
ومن روعة الرؤية الإسلامية أنها ربطت تغيير الواقع بتغيير النفس، وتغيير النفس لن يأتي إلا بمعرفتها ومعرفة الأمراض والانحرفات التي أصابتها، وكذلك معرفة العلاجات لتحقيق العافية والعودة للنقاء من جديد، لذلك كانت الرؤية الإسلامية تحث على أن يستمع الإنسان إلى صوت نفسه في صمت الليل من خلال قيام الليل، ففي ذلك الوقت الساكن بالطمأنينة يمكن تحقيق التواصل والمعرفة بين الإنسان وذاته من خلال طريق العبادة، وهي طريقة عملية للوصول إلى النفس دون شغب الحياة وصخبها.